لقد شعرت بقلق عميق لدى سماعى خطب الحملات التى ألقاها جميع المرشحين تقريباً للبيت الأبيض، إلى درجة أننى أخاف على مستقبل القوة العظمى وأخشى التأثير الذى يمكن أن تمارسه أمريكا على العالم فى حال أصبحت انعزالية تحرّكها سياسة الكراهية.
نادراً ما حوصر عالمنا بهذا القدر الكبير من التهديدات والتحدّيات. يبدو لى أن القيادة الأمريكية المستندة إلى القيم تشكّل الآن حاجة ماسة أكثر من أى وقت مضى. إذا عزلت أمريكا نفسها عن العالم ووُصِمت شرائح واسعة من البشرية بالعار بسبب دينها أو عرقها، سوف يسارع منافسو الولايات المتحدة الجيوسياسيون الانتهازيون والسلطويون إلى سدّ الثغرة.
كانت الولايات المتحدة تسمّى فى ما مضى "شرطى العالم"، إلا أنه نادر ما تُستخدَم هذه العبارة منذ تسلّم الرئيس أوباما دفّة الحكم. يُنظَر إليه بأنه ضعيف ومتردّد فى السياسة الخارجية. أخشى أن يثير خلفه عداء الشركاء التقليديين لواشنطن فيُحدث خللاً فى التوازن الذى تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ عليه، ما يؤدّى إلى فقدان الثقة بالولايات المتحدة والخوف منها أكثر منه احترامها والإعجاب بها.
قبل بضعة أيام، تمعّنت من جديد فى كلام وأطباع المرشحَين المفترضين لرئاسة الولايات المتحدة، ولم يعجبنى أبداً ما استنتجته. تثير أسماء المرشحين للرئاسة الأمريكية التوجّس والقلق – لا سيما فى هذه المنطقة من العالم – وذلك لأول مرة فى تاريخ الولايات المتحدة. يشعر عدد كبير من الناخبين الأمريكيين بأن آفاق الخيار مسدودة أمامهم؛ ومنهم الممثّل الهوليوودى هاريسون فورد. فقد انضم إلى حملة "لا أحد لمنصب الرئيس" عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
لا يعنى ذلك أن جميع الرؤساء الأمريكيين كانوا قدوة ومثالاً يحتذى، لكن باستثناء حفنة قليلة من الرؤساء، لا سيما ريتشارد نيكسون (فضيحة واترغايت)، وليندون ب. جونسون (فيتنام)، وجورج دبليو بوش (حروب كارثية غير ضرورية)، كان الرؤساء الأمريكيون يتمتعون بخصال قيادية استثنائية ونوايا شريفة.
لا يسعنى سوى التساؤل كيف كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة وألمع رؤسائها ليشعروا لو أدركوا الحضيض الذى انحدر إليه السباق الرئاسى الذى تطبعه الإهانات الشخصية وخطاب الكراهية، وهى نزعة مقيتة انتقلت أصداؤها إلى الاستعدادات التى تسبق الاستفتاء على الاتحاد الأوروبى فى بريطانيا الذى تحوّل أيضاً إلى مبارزة كلامية حادّة تُطلَق فيها أفظع النعوت.
لم تبارح هذه الأفكار ذهنى ووجدت نفسى لاحقاً أتخيّل حديثاً بين ثلاثة من أعظم الرؤساء الذين عرفتهم أمريكا – جورج واشنطن وأبراهام لينكولن اللذين ناضلا من أجل توحيد أمتهما الوليدة، وثيودور روزفلت، الرجل المثقّف الذى تخطّى معوّقاته الجسدية ليصبح محارباً من أجل بلاده بكل ما للكلمة من معنى.
كانوا أصحاب مبدأ يتحلون بالشجاعة والإقدام. وكانوا يعملون بحسب مبادئهم ومعتقداتهم ويتمسّكون بالأخلاقيات الراسخة. لم يكونوا متقلّبين فى السياسة؛ ولم يستخدموا شعارات مكرّرة أو يطلقوا تصريحات الهدف منها استغلال مخاوف الناخبين – وبالتأكيد لم يحرّضوا الحشود على العنف أو يسخروا من ذوى الإعاقات. كانت نظرتهم إلى أمريكا ملاذاً للمظلومين والفقراء والمضطهدين حول العالم إلى أى جهة انتموا.
قال جورج واشنطن: "تعامَلوا بعدل وحسن نية مع جميع الدول. وعيشوا بسلام وانسجام مع الجميع". وقال أبراهام لينكولن إنه يحلم بـ"مكان وزمان حيث يُنظَر إلى أمريكا من جديد بأنها بارقة الأمل الأخيرة على وجه الأرض"، وكان ثيودور روزفلت يعتبر أن "اللطف سمة الأكابر تماماً مثل الشجاعة".
أنا على يقين من أنهم لو كانوا على قيد الحياة اليوم، لأعربوا عن اشمئزازهم من تبادل الإهانات بين المرشّحين، والطعن فى الظهر، والحيَل القذرة، وسياسات التعصب. لقد اضطلع هؤلاء وكثير ممن جاؤوا بعدهم، مثل جون ف. كينيدى وجيمى كارتر وبيل كلينتون، بدورهم كحاملى لواء الحلم الأمريكى ومدافعين عنه بالوقار الذى يستحقه هذا المشروع المدهش.
لقد أدّى كل منهم، على طريقته، دوراً أساسياً فى جعل أمريكا منارة للعدل والحرية. أين هم المرشحون المحترمون والملهِمون الذين يحبون بلادهم أكثر من أنفسهم؟
أظهر كينيدى قوته وشجاعته خلال أزمة الصواريخ الكوبية. كان كارتر ولا يزال يكترث بصدق لأمر الفقراء، وسوف تنطبع ذكراه إلى الأبد بأنه كان صانع سلام. أجاز كلينتون استخدام القوات الأمريكية فى حرب عادلة لوقف التطهير العرقى الذى مارسه الجيش اليوغوسلافى بحق الألبان فى كوسوفو، وأتاحت سياساته الاقتصادية للبلاد تحقيق فائض كبير فى الموازنة وصل إلى 280 مليار دولار.
نكاد ننسى أن النور الأمريكى الفريد الذى يضىء كوكبنا يسطع من خلال الطاقة والابتكار اللذين يتمتّع بهما المجتمع الأمريكى المتعدد الثقافات حيث التقى أشخاص من أعراق وأديان مختلفة حول علم واحد، ويعتزّون بأنهم "أمريكيون".
كانت نيويورك لتتحوّل مدينة عادية ورتيبة من دون تشايناتاون وكورياتاون وليتل إيتالى وليتل أوديسا وليتل إنديا. وكانت لوس أنجلوس لتصبح مدينة من لون واحد لولا جيوبها العرقية، وكانت معالم ميشيغان لتتبدّل تماماً لو لم تكن تضم جاليات أمريكية-عربية مزدهرة.
زيارة أمريكا أشبه بالقيام بجولة على العالم بأسره. الحمد لله أن الرؤساء الأوائل لم يسعوا إلى نصب الجدران أو إقامة الحواجز فى وجه الوافدين الجدد الأكفياء الذين كانوا يتطلعون إلى شق طريقهم نحو الأعلى. إنها لمفارقة أن الضجيج الأكبر يصدر عن أشخاص هم أنفسهم أولاد أو أحفاد مهاجرين. ألا يخجلون؟
لا حاجة إلى جعل أمريكا عظيمة من جديد. أمريكا عظيمة! لسوء الحظ، استشعر أننا سنكون أمام منزلق خطير بعد 20 يناير 2017، موعد تنصيب الرئيس الجديد. أياً تكن هوية الرئيس العتيد، عليه أن يتذكّر أن "البيت المنقسم على نفسه لا يُكتَب له الصمود" – بحسب التحذير الذى أطلقه الرئيس لينكولن الذى يحتل، فى نظرى، الصدارة بين جميع الرؤساء الأمريكيين.