لا يزال فن القصة القصيرة بخير فى عالمنا العربي، هذا ما تؤكده الصحوة التى نشهدها فى القصة فى السنوات الأخيرة، ومؤخرا قرأت مجموعة "الببلومانى الأخير" لـ شريف عبد المجيد، صادرة عن دار الربى للنشر، والتى يمكن قراءتها من زويا عدة، منها ما يتعلق بالأفكار، ومنها ما يتعلق بالبناء، ومنها ما يتعلق بمفهوم القصة القصيرة، ومنها ما يتعلق بالفن عمومًا.
فى البداية سوف يستوقفك العنوان "الببلومانى الأخير"، وبقليل من البحث سوف تعرف أن المقصود به "الهوس بالكتب"، لذا يمكن أن ننطلق من فكرة "الهوس" وهى فكرة مسيطرة تقريبًا على الجزء الأول من المجموعة الذى يشمل قصص (الذواق، رائحة الجوافة، صاحب الرسالة، الببلومانى الأخير، المزرعة السعيدة)، ففى كل واحدة من هذه القصص "هوس" من نوع ما، فالذواق نجده مهووسًا بالطعام ويستغل ذلك فى صناعة مستقبله فى عالم الميديا، بينما فى "رائحة الجوافة" سوف نجد ذلك المهووس بأسرار الناس، الذى يدفع الثمن فى النهاية، أما بطل قصة "صاحب الرسالة" فهو مهووس بالفضيلة أو بما يظنه فضيلة يحقق ذلك بنفسه، و"الببلومانى الأخير" مهووس بالكتب بجمعها واقتنائها ويظن أنه فى مهمة مقدسة فيدفعه ذلك إلى ارتكاب العديد من الجرائم، وفى قصة "المزرعة السعيدة" الجميع مهووسون بالبحث عن البيض المقدس، ذلك الهوس الذى يصيب الجميع يكشف عن فكرة عامة فى المجتمع، كأن "الهوس" قيمة، يقع فيها الجميع، والملاحظ أنهم فى النهاية يدفعون الثمن، نعم فالكل فى الجزء الأول يرتكبون خطايا تصل إلى حد الجرائم، منهم من يرتكب هذه الجرائم ضد نفسه ومنهم من يرتكبها فى حق الآخرين.
أما الجزء الثانى من المجموعة ويشمل قصص (ولدًا مثلك، رجل يشبهني، الجميع ينسون شيئا ما، وقوع السيستم، خمسة عشر يوما) فالإنسان هنا ضحية، الأم المريضة بألزهايمر، والرجل الذى يراقب نفسه حتى الموت، بينما فى "الجميع ينسون شيئًا ما" نجد المبدع يبحث عن دخلة ملائمة لقصته الجديدة، كما أنه يعمل ما لا يرضيه فى انتظار ما يرضيه، وهو يعرف أن ذلك لن يأتى، وفى قصة "وقوع السيستم" نجد الجميع ضحايا للميكنة، من كارت البنك إلى تذكرة محطة المترو إلى العمر الذى يتسرب من ماكينة الأيام، وقصة "خمسة عشر يوما" الإنسان فيها ضحية المرض والعمل والمتطلبات، إنه يقف وحيدا فى مواجهة الجميع.
كما أن المشهدية فى المجموعة تجعلنا نتخيل أبطال الجزء الأول أشخاصًا ينظرون بوحوههم إلى المجتمع، يمدون أيديهم ويختلطون يما يحدث فيهـ بل يصنعون أحداثه، بينما فى الجزء الثانى أبطاله أناس يعطون ظهورهم للحياة، لا يريدون الفعل، يفكرون فى الهروب والفرار، بينما الحياة فى الجزئين صاخبة لا تتوقف.
وتمتاز مجموعة "الببلومانى الأخير" بتعدد الأصوات داخل القصة الواحدة، وبتنوع الأبطال واختلافهم، إنها قصص تنمو دائمًا، لا تجعل من اللحظة بطلا للقصة، بل الحياة الممتدة هى البطل، فالجميع يأخذ حظه فى التعبير عن نفسه، وهذا التنوع منح المجموعة حيوية ما، وعلى الرغم من تقارب عوالم المجموعة على المستوى النفسي، لكنها على المستوى الاجتماعى لم تكن كذلك فهى تجمع بين الذين يملكون كل شيء والذين يعيشون على الكفاف.
ويمكن لمجموعة "الببلومانى الأخير" لشريف عبد المجيد أن تتحول بسهولة إلى مجموعة من الأفلام القصيرة، فقد احتفت بجانب الكتابة الفنية بدرجة عالية من التشويق خاصة فى الجزء الأول وبدرجة عالية من الإنسانية فى الجزء الثاني.