الإمام محمد بن إسماعيل البخارى من الصادقين الساعين وراء أهدافهم، رحل عن دنيانا فى عام 256 هـ، لكن قبل رحيله كان قد أدى واجبه كاملا، سعى فى الأرض بحثا عن العلم، جمع أحاديث سيدنا النبى، عليه الصلاة والسلام، وتتبع الصحيح منه، وضمه بين دفتى كتابه "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" المعروف بصحيح البخارى.
كان الإمام البخارى مخلصًا فى عمله، فبذل الكثير من عمره من أجل أن يجمع حديث النبى، عليه الصلاة والسلام، وسعى فى البلدان وزار الدول والتقى الكثير من الناس، منهم الصادق الذى اطمأن له الإمام فأخذ منه ونقل عنه، ومنهم من لمح الإمام كذبه فتركه وما يدعى، كما كان البخارى دقيقا فى كل ذلك، وكان متدينًا ورعا كريما، وفى ذلك تتفق كل الكتب التى ترجمت لسيرته.
لقد قضى الإمام البخارى عشرات السنين فى جمع الحديث، ويقال إنه جمع نحو 600 ألف حديث، وبعدما جمعها ظل 16 عاما متواصلة يعمل عليها وينقحها حتى وصل العدد إلى 7 آلاف و300 حديث، فما الذى جعله يحتمل كل ذلك، من رأيى أن البخارى انطلق من مبدأ أن هذا الموضوع هو مشروع عمره، لذا لم يبخل عليه أبدا بطاقة أو وقت.
لقد كان البخارى من علماء عصره ومع ذلك عانى فى حياته، لقد حسده البعض وتسببوا فى نفيه ومن ذلك ما فعله محمد بن يحيى الذهلى، عالم نيسابور الأشهر، عند مجىء البخارى لزيارة المدينة، ولما استقبل الناس البخارى بحفاوة بالغة، قرر المقام فى المدينة، وصار مجلسه أكبر مجلس علم فيها، فأثار ذلك غيرة الشيخ الذهلى فبعث من سأل البخارى عن مسألة خلق القرآن، وهل اللفظ مخلوق أما لا؟ وكانت قضية خلق القرآن قضية شائكة وهى بمثابة فتنة كبرى ألقت ظلالها على المجتمع الإسلامى فى ذلك الوقت وقد حاول البخارى الهروب من هذه المسألة، لكنه لم يستطع، فاضطر للإجابة بأن كلامنا مخلوق، ومنها استنبط "الذهلى" أن البخارى يقول بالتلفظ، فاتهمه فى دينه، وظل يشنع عليه حتى أخرجه من المدينة، فخرج ولم يشيعه سوى عدد قليل من الناس.
وكانت النتيجة أن مات الإمام غريبا على طريق سمرقند فى عام 256 هجرية بعدما رفضت المدن الإسلامية استقباله وبعدما رفع يديه إلى السماء وابتهل إلى الله "اللهم إنى قد ضاقت علىَّ الأرضُ بما رحبت، فاقبضنى إليك".