ربما يبقى الحديث عما يمكننا تسميته بـ"صراع العملات" مهيمنا إلى حد كبير على الساحة الدولية في المرحلة الراهنة، في ظل امتداد الأزمة الأوكرانية، وإعلان موسكو تصدير الغاز لأوروبا الغربية بعملتها "الروبل"، في الوقت الذي اتجهت فيه دولا أخرى نحو اللجوء إلى عملات أخرى، وعلى رأسها "اليوان" الصيني، ليكون وسيلة التبادل، خاصة في مجال النفط، وهو ما يصب في خانة التوجه نحو قواعد جديدة للنظام الاقتصادي العالمي، والذي بات مرهونا منذ عقود بالدولار الأمريكي، تزامنا مع الصعود الكبير الذى حققته بكين في السنوات الأخيرة، إلى الحد الذي أزعج الولايات المتحدة، ودفعها إلى شن ما يشبه حربا تجارية عليها، مازالت لم تنته بعد، وإن توارت خلف الصراع الذى تشهده أوكرانيا في المرحلة الراهنة.
الخطوة الروسية تمثل انتقاما من الدولار، بينما في الوقت نفسه تعد تصديرا لصورة قوية للاقتصاد الروسي، وقدرته على المنافسة الدولية، على اعتبار أن الجانب الاقتصادي أحد أهم أبعاد المشاركة في القيادة الدولية، خاصة مع القيمة الاستراتيجية الكبيرة للسلعة التي تقدمها موسكو، لخصومها في الغرب، ناهيك عن غياب البديل اللحظي، الذي يمكنه تعويض النقص الكبير في إمدادات الغاز لأوروبا، حال أوقفت روسيا صادراتها للقارة العجوز، إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة أن موسكو تقدم 60% من احتياجات الغاز للدول الأوروبية، وهو ما يعنى صعوبة معادلة هذه الكمية حاليا من بدائل أخرى، وبالتالي يبقى الحديث عن تغيير العملة المرتبطة بصادرات الغاز الروسي، بمثابة صفعة كبيرة، سواء للدولار أو لأوروبا الغربية في المرحلة الراهنة.
ولعل التساؤل الذي يدور في ذهني في اللحظة الدولية الراهنة، حول ما إذا كانت موسكو تستطيع أن تتحمل قوة عملتها، في ظل معركة كبيرة تخوضها، سواء على المستوى العسكري في أوكرانيا، أو دبلوماسيا، إثر عقوبات دولية متواترة تلاحقها اقتصاديا، وتهدف إلى تعجيزها، خاصة وأن ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها لا يقدم مؤشرا كليا على الوضع الاقتصادي للدولة، في ظل العديد من النماذج والسياسات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة.
فلو نظرنا على سبيل المثال إلى النموذج الصيني، باعتباره أحد أهم أبطال المشهد الاقتصاد العالمي منذ سنوات، نجد أن الحكومة الصينية، واجهت اتهامات متلاحقة، حول تخفيض عملتها (اليوان) لتكون أقل من قيمتها الحقيقية، حتى وصلت الضغوط أوجها في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي دعا بكين إلى رفع قيمة العملة، بما يتناسب مع وضعها، دون استجابة، بل وأنه خاض صراعا مع رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، لاتخاذ الإجراءات التي من شأنها تقييد ارتفاع الدولار، وذلك لمجاراة قدرات بكين على التصدير واختراق الأسواق العالمية بمنتجاتها، بسبب أسعارها الرخيصة، إذا ما قورنت بالمنتج الأمريكي، بينما يبقى عامل الجودة محلا للتنافس، بين البلدين، مع الطفرة الكبيرة التي شهدتها الصناعة في بكين.
رؤية ترامب قامت على أساس حقيقة التغيير الكبير في قواعد الاقتصاد العالمي، والتي قامت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على قوة العملة باعتبارها معيار لقوة الاقتصاد، بينما أصبح الأمر مختلفا تماما في الوقت الحالي، حيث يبقى القدرة على الإنتاج والتنافسية، هما المعيار الحقيقي الذي تتحدد به قوة الدولة، وهو ما ترجمته كلماته التي وجهها في ذلك الوقت إلى جيروم باول ، قائلا "أريد أن تكون العملة الأمريكية عظيمة لدولتنا.. وليست القوية للغاية بما يفوق قدرتنا على التعامل مع الدول الأخرى"، وهو ما يمثل اعترافا ضمنيا من قبل "سيد البيت الأبيض" حينها بتراجع الاقتصاد الأمريكي رغم قوة الدولار، إلى الحد الذي لم تستطيع فيه واشنطن أن تتحمل قوة دولارها.
وهنا تصبح الخطوات الدولية التي من شأنها السيطرة على جموح الدولار، لا تغضب أمريكا كثيرا، حتى وإن أظهر مسؤولي واشنطن عكس ذلك، خاصة إذا ما راجعنا السياسات الأمريكية في صورتها الكلية في السنوات الأخيرة، والتي لم تشهد اختلافا جذريا بين الإدارات المتعاقبة، من جانب، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية التي شهدتها أمريكا ومن ورائها العالم، وأبرزها الازمة المالية العالمية، بين عامي 2007 و2008، من جانب آخر.
الخطوة الروسية ربما تحمل مجازفة كبيرة، ورهانا على قدرة موسكو على تحمل قوة العملة في المرحلة الراهنة، في ظل الاعتماد الرئيسي على الصادرات النفطية، في ظل معركة محتدمة تنال، شاءت أم أبت، من وضعها الاقتصادي، وهو ما قد يدفع الحكومة الروسية إلى اعتماد نهج أكثر مرونة في إطار الحرب الكلامية الراهنة مع الغرب، يقوم على الوصول إلى حل وسط فيما يتعلق بالعملة المستخدمة مقابل صادراتها من الغاز، سواء كان اليورو، أو حتى اليوان الصيني، وهو ما يحقق رؤيتها فيما يتعلق بإيجاد بديل للدولار أو بالأحرى اعتماد سلة من العملات الدولية، سيكون الدولار بالطبع جزء منها، وليس المهيمن الوحيد.