أجمع كثيرون على أن الماكير أحمد مصطفى أجاد عمله في مسلسل "الاختيار 3- القرار" إلى درجة الإبهار، وهذا أمر يستحق الالتفات ويعيد الاعتبار لعنصر فني مهم، خصوصًا وأن المكياج بطلًا رئيسيًا في المسلسل، بما يشير إلى أهميته ودوره في المسار الدرامي، كما يطرح الاستفهام المتكرر عن غياب دراسة هذا الفن في المعهد العالي للسينما.
الأمر الملحوظ كذلك أن الماكياج ليس وحده سر وهج الممثلين، وتألقهم على الشاشة. صحيح أن ما فعله الماكير هنا خرج من دائرة التجميل والاشتغال الكلاسيكي، حيث ركز على إظهار ملامح الشخصيات وتضاريسها الخارجية والداخلية، ومدى مطابقتها لسياق السيناريو ولحضورها في الواقع، وصحيح أنه وصل إلى روح الشخصية إضافة إلى شكلها، لكن هذا لا ينفي إدراك الممثلين لأدوارهم وجرأتهم في تجسيد شخصيات، تكمن صعوبتها في معرفتنا بها.
هذه الجرأة تبدو ظاهرة بوضوح مع ياسر جلال، الممثل الذي وصل ولعه بتجسيد شخصية الرئيس السيسي، لأن يلتزم بالشكل الخارجي، ويجتهد ليقدمها بالطريقة التي تشي بـدراسته لكل التفاصيل، إنه هنا ليس مقلدًا وإنما يؤدي دوره بإيقاع يتوافق مع الشخصية، يعرف كيف يقوم بتقطيع عباراته، ومتى يتوقف، وأين يوجه نظراته، لغة الجسد عنده واضحة ومفهومة، في إطار استيعابه لعمله وبما يؤدي إلى إقناع مشاهديه.
من هذه النقطة شاهدنا الممثل وقدرته على التقاط التفاصيل ببراعة لاعب محترف، لاعب أتقن اللغة المطلوبة في التمثيل، وشارك بجدية فريق العمل في بلورة الحكاية، بدا هادئًا في الإمساك بالحالة، وهذا ما حدث أيضًا مع أحمد بدير من خلال أدائه لدور المشير طنطاوي، بالدرجة التي تجعل مشاهدوه يحسون به، ويستخلصون إلى مدى وعيه بالشخصية، وتمكنه من إنجاز تأديتها، حتى حين يدير ظهره إلى الكاميرا، يتلاشى الخط الفاصل بين الممثل والشخصية.
وأما صبري فواز فيتلاعب بتجسيده شخصية "محمد مرسي"، يتلبسها شكلًا ومضمونًا، يتقن حركاته وانفعالاته الظاهرة والباطنة، تلك التي تنسحب إلى وجهه، وتظهر في حركة يده ، اضطرابه وارتباك ملامحه، حتى حين يلجأ المخرج خلال حيلته الإبداعية في الإنتقال بين الدرامي والتسجيلي، نشعر بالتطابق والتماثل في لحظة مقتنصة من سيرة وتاريخ وطن.
لحظة نستعيد فيها شخصيات مثل محمد بديع، مرشد جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، يجسده عبد العزيز مخيون برسوخ في حركته وإيماءاته، بينما خالد الصاوي بتقديمه دور خيرت الشاطر، يبرز أسلوبه في الأداء التمثيلي، إذ يُعلن دأبه واجتهاده وقدرته على الظهور بطريقة عملية، ويرسم لوحة ثلاثية الأبعاد للدور، بُعد يتغذى من القصة، وبُعد يستمد وجوده من البيئة التي يدور فيها الحدث، وبُعد يتسلل من طبيعة الشخصية الفنية التي يجسدها.
إذن. نحن أمام ممثلين قاموا بترسيخ حضورهم، من خلال وعيهم بالموضوع وبطبيعة الشخصيات، ومن الطبيعي أن هذا الوعي جاء بالخبرة والتراكم أسهمت في نضج الممثل، وحضوره كمهني محترف وفنان ينغمس بكل حواسه في عمله، وهذا ملمح صريح، وينطبق على جميع الممثلين الذين وصل عددهم نحو المائتين، في أدوار متنوعة ومتباينة، في مسلسل يسعى إلى تقديم حالة حيوية وحماسية، تصنع صورًا، وتروي حكايات، وتصور انفعالات، وتلتقط حالات متباينة تقود إلى الوعي والمعرفة بما حدث ولازال يحدث.
لا يقدم المسلسل تفسيرًا لشيء، لكنه يستعيد أيامًا صعبة عشناها، بما يجعله وثيقة مرئية، تعيد صوغ دور أبطال واجهوا هذا الصعب في مرحلة فاصلة، وقصص إنسانية يمتزج فيها السياسي والثقافي والمجتمعي والنضالي، وربما تحملنا إلى أسئلة كثيرة، بعضها يتشابك مع الواقع، والبعض الآخر فني، يحدد المجهود الكبير الذي بذله هاني سرحان (كاتبًا) وبيتر ميمي (مخرجًا)، ليقدما سياقًا متكاملًا من السرد، معتمدًا الصور الأرشيفية عن هذه الفترة التاريخية القريبة، وبتصوير حديث للحكاية وفي الأمكنة الشاهدة على ما حدث.
وللحديث بقية...