بالطبع ليس شرطا أن يكون الصادقون الذين نتحدث عنهم من المشهورين والمعروفين الذين نعرف أسماءهم وأنسابهم، بل هناك أناس عاديون لا نعرفهم لكن الله منَّ عليهم بنعمة الصدق مع النفس والصدق مع الله، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن ذلك الأعرابي الذى التقاه الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم فى الصحراء، تقول القصة:
حج الحجاج بن يوسف الثقفي فمر بين مكة والمدينة، فأُتي بغدائه فقال لحاجبه: انظر من يأكل معي.
فذهب الحاجب وإذا بأعرابي نائم فأوقظه، وقال له: أجب الأمير.
فقام، فلما دخل على الحجاج قال له: اغسل يديك ثم تعال تغد معي.
فقال الأعرابي : إنه دعاني من هو خيرٌ منك، فأجبته.
قال: من هو؟ قال: الله، دعاني لصوم فأجبته.
قال الحجاج : في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حراً منه.
فقال الحجاج: أفطر وصُم ليوم غد.
قال: إن ضمنت لي البقاء إلى الغد.
قال الحجاج: ليس ذلك بيدي.
قال: كيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟
فقال الحجاج: إن طعامنا طعام طيب.
قال الأعرابي: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.
هذا الرجل الصادق لم يخش أميرًا بحجم الحجاج بن يوسف الثقفي مع شهرته بالعنف والانتقام، ولم يغره الطعام الطيب الذي ربما لم يره فى حياته، ولم تغره الدنيا فيقضي ساعات فى خيمة الأمير الظليلة بدلا من حر الشمس والحياة الصعبة التى يقضي فيها عمره، ولم ينخدع بطول الأمل، وكل ذلك من شيم الصادقين.
هذا الأعرابي حتمًا كان صادقًا في كل شيء في حياته، لأن المبادئ لا تتجزأ أبدًا، فقد واجه رهبة الأمير بمن هو خير منه، بالله سبحانه وتعالى، كما نلحظ فى كلماته محبة لله وليس خوفا، فهو يرى أنه تلقى دعوة من الله سبحانه وتعالى، وهو قد لبى الدعوة، ونحن عادة لا نلبى إلا دعوة من نحب.
رجل صادق دخل على الأمير مطمئنًا وخرج مطمئنا أيضا، وترك للحجاج درسا، لكننى لا أظن الأخير تعلم منه شيئا، بل ظل متعجبا من الرجل وأحواله ثم عاد إلى طعامه يأكل وحيدا.