راجعين يا هوى.. كل اللي بيننا مفاصل ملخلخة ما تستحملش شَدة

بالنسبة لمن تعلق بمسلسلات أسامة أنور عكاشة في رمضان، فإن "راجعين يا هوى" إخراج محمد سلامة، ربما يعوضهم إلى حد ما عن غيابه، حيث يحضر المسلسل كذكرى ومثال وفصل جديد من تاريخ اجتماعي، يتخلله مساحات إنسانية واسعة، وتُعَقده التغيرات العاصفة، كما يؤشر إلى تلازم جوهري بين ما كتبه أسامة وبين جمهور إعتاد أن ينتظره في رمضان. ومع ذلك لن أتحدث عن المسلسل، من زاوية اشتياق الجمهور لإبداع أسامة أنور عكاشة، ومن ثم حضوره على الشاشة الرمضانية، ولن أعقد مقارنة بين نص سبق أن قدمه الكاتب الكبير كمسلسل إذاعي في العام 2004، وبين سيناريو لكاتب من جيل الأبناء والوارثين هو محمد سليمان عبد المالك (من أعماله: باب الخلق، اسم مؤقت، رسايل، ممالك النار، قصر النيل)، فالتناول بمنظور الشوق والمقارنة قد يجعلنا نقع في فخ الحنين وكفى، وقد يحبط تجربة فيها من التحدي ما يغني دراميًا وجماليًا.

لكن سأتذكر ما قلته ذات يوم للدراماتورجي المتمرس، وهو ما لقبه به النقاد، عن أن المبدع لا يبدع أعمالًا عظيمة على الدوام، إنه يجرب أحيانًا.. ويشطح أحيانًا، ويخضع لقوانين السوق أحيانًا، ويقوم ببعض التدريبات العلنية أحيانًا، فليست كل أعمال دافنشي في مستوى "الموناليزا"، وليست كل أعمال نجيب محفوظ في مستوى "الثلاثية"، وأيضًا ليست كل أعمال أسامة أنور عكاشة في مستوى "ليالي الحلمية".. ثم سألته إن كان يستطيع أن يقدم لنا قممًا إبداعية أخرى، أم أنه سيبقى فترة في منطقة البحث عن نافذة تأخذه إلي أفق جديد..؟ أثار سؤالي دهشته، وأثارت إجابته حيرتي، فلم أحرز حينذاك معنى أنه لا يطمع في عمل قادم أفضل من أعماله السابقة، ولم أدرك كيف أنه لا يعتبر "ليالي الحلمية" أفضل أعماله، وأنه مستجيب لهذا التقييم حسب حُكم الناس ورغبتهم، وفي رأيه هو الأصدق ولابد أن يحترمه، غير أنه يفضل أعمالًا أخرى مثل: "وقال البحر، عصفور النار، الشهد والدموع الراية البيضاء، أرابيسك، زيزينيا".

لعلها لم تكن مصادفة أن الأعمال التي إنتقاها عكاشة تدور حول قيمة أساسية شغلت باله كثيرًا، هي قيمة "العدالة" في مجتمع حقيقي من لحم ودم، كذلك سؤال الهوية وتأصيل الشخصية المصرية، فهذا ما دأبت عليه أعماله، وخاضت في تفاصيل كاشفة سر توحش كبار المجتمع و"الناس المستريحة" في مواجهة "الناس الشقيانة".

الغرض من هذه المداخلة الطويلة نوعًا، أنه بعد 18 عامًا تقريبًا من المسلسل الإذاعي، و12 عامًا من رحيل عكاشة، حين يأت عبد المالك ليصوغ السيناريو الجديد، فإنه يحقق أمنية سلفه بتأثير ما يكتبه في الأجيال الجديدة، قد يرى البعض أن النسق العام للمسلسل كلاسيكي، يُكمل مشروع عكاشة المعروف، فهو بفطنته وأستاذيته، لم يجعل بطله نموذجًا للكمال، إنما بطل في تحولاته ومساراته الطويلة في كشف عطبه الداخلي.

ومن هنا يُمكن مشاهدة المسلسل بمستويين: إما من الجانب الفني البحت، وإما من جانب رغبة صناعه في رسم صورة عن واقع جديد، موغل في حماقته وضياعه، الجانبان هما جناحي تجربة أسامة أنور عكاشة، كما ألفناها، حتى الضحك وخفة الظل لهما حضور متعلق بطبيعة الشخصية المصرية، لذا نحسه أحيانًا ممزوج بارتباك وقلق وحتى حسرة، والصراع في هذه الدراما العائلية يظهر على خلفية المتغيرات السياسية والاجتماعية في مجتمعنا.

الصراع في ظاهره على إرث عائلي، يشبه بشكل ما "الشهد والدموع" (1983/ 1985) إخراج اسماعيل عبد الحافظ، صراع الخير والشر بين الشقيقين شوقي وحافظ، الأول طيب يسير في درب المثالية المطلقة، والثاني شرير تقوده نفسه الجموحة للامتلاك والشهوة. نلمح في المسلسل صراعًا أخر عن التفسخ العائلي في "رحلة السيد أبو العلا البشري" (1986/ 1996) إخراج محمد فاضل، وبطله المثالي ذو القيم، الذي يحاول أن يصلح مجتمعه عن طريق أقاربه، لكن بليغ أبو الهنا (خالد النبوي) بطل "راجعين يا هوى" ليس شوقي الطيب ولا هو المثالي أبو العلا البشري، لكنه هذا الرجل الذي يتعاطى مع الحياة بجرعات كبيرة، نسبيًا هو طيب وابن بلد وخفيف الظل، وهو أيضًا الفاشل في نظر أقاربه، المطارد من مجرمين عتاة في أوروبا، الـ " toxic man" أو الرجل السام في علاقاته العاطفية، تركيبة بشرية متشابكة، متحررة من أوهام المثالية المطلقة والفروسية المهزومة، إنها نقطة الارتكاز التي توصل إليها عبد المالك وانطلق منها تفاصيله الدرامية الثرية.

كما أنها الفكرة التي استوعبها خالد النبوي، فقدم بهذه الصورة المفعمة بالحيوية، والدالة على نضج الممثل الواعي بالعمل ككل، ولجملة نطقها تلخص حكمة المسلسل:"كل اللي بيننا مفاصل ملخلخة ما تستحملش شَدة".

بينما أحمد بدير في دور جابر أبو الهنا، شكلًا ومضمونَا يمكنني القول بضمير مرتاح أنه من النماذج الأثيرة عند أسامة، مدرس الفلسفة، صاحب القيم، وإن كان ينعزل في بيته بعيدًا عن الصراعات، لكنه في وقت الجد يختار صف الحق. على جانب آخر حضور شخصيات مثل فريدة (هنا شيحا)، يسرية (وفاء عامر)، شكرية (أنوشكا)، د. ماجي (نور)، صفية (سلوى علي)، تمنح المسلسل روحًا صلبة وهِمَّة تنسحب إلى بقية فريق الممثلين، بما يصنع نوعًا من التوازن، يشير إلى رسوخ فكرة العمل الجماعي، والأهم أن الأسماء الجديدة بدت فطنة لهذا الأمر، ومنهم إسلام إبراهيم (رؤف)، سلمى أبو ضيف (ولاء)، ونور النبوي (طارق)، ابن خالد النبوي الذي يشكل معه ثنائيًا ظريفًا.

الرهان على المؤلف، يدعمه رؤية مخرج استوعب حكاية تعكس شيئًا من اختلاف الأزمنة، ومناخ درامي هادئ رغم صخب الوجع الدفين، وصورة محمد مختار، مدير التصوير غير المعني بالإبهار وإنما بالتماهي مع الموضوع، وترجمته إلى صنيع بصري، حيث تلتقط الكاميرا لحظات إنسانية شفافة، تلائم وهج حدوتة موزعة بين الحاضر، وحالة من حالات حنين البطل للماضي، هذه الحالة التي ترجمها صوت مدحت صالح في التيتر، بكلمات تامر حسين وألحان عزيز الشافعي: "جاي لكم يا اللي وحشتوني وحشتوني/ وما فيش حاجات هتفرقنا دي صورتكم/ ما فرقتش عيوني مين يبعد ده احنا ما صدقنا".

ثمة تنويع أخر من الحنين، نجده في اختيار صناع المسلسل لصورة كريمة مختار على جدار منزل العائلة، تحية لفنانة كبيرة ولمرحلة حميمية مضت، ما جعلها جزء من اللعبة الفنية، اللعبة، التي كان يجيدها أسامة أنور عكاشة، وشهدناه سابقًا مفتوحة على الدرامي والانفعالي، التاريخي والواقعي، النفسي والتأملي، والتداخل بين كل هذه الحالات المنبثقة من اليوميات العادية.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;