محمود مختار من الصادقين، هذه حقيقة لا تحتاج شرحا ولا دليلا، يكفى أن ترى تمثال نهضة مصر لتتأكد أن هذا الموهوب حفيد حقيقى للفراعنة الفنانين، فهو أول نحات مصرى معاصر تعرض أعماله فى الشوارع والميادين.
يطيب لى أن أتخيل حياة محمود مختار القصيرة، فهذا الفنان ولد فى 1891 ورحل فى 1934 أى أنه لم يقض معنا سوى 43 عاما فقط لاغير، ومع ذلك فإن بصمته على الفن خالدة، لا أقول الفن المصرى بل والعالمى أيضا.
كان محمود مختار من خريجى مدرسة الفنون الجميلة ثم سافر إلى باريس ليتعلم أكثر، وعندما قامت ثورة 1919 لم يكن قد تجاوز الـ 28 من عمره وكان لا يزال فى باريس وهناك أنارت فى ذهنه فكرة تمثال "نهضة مصر" وبالفعل أبدع التمثال وقدمه إلى معرض الفنون الجميلة فى باريس وأخد عليه شهادة تقدير.
وحسبما ذكر الدكتور عماد أبو غازى، فإن التمثال فى البداية كان على شكل رجل بعقال فارد صدره وسيفه فى وسطه، لكن الفكرة لم تعجب مختار فكسر التمثال، ولم يبق منه غير صورة فوتوغرافية، وبعدها نحت التمثال الذى نعرفه الآن.
المهم أن سعد زغلول رئيس الوفد المصرى اطلع على التمثال فى باريس وأعجب به وكتب فى ذلك رسالة إلى مختار فى سنة 1920 جاء فيها "حضرة المصور الماهر مختار شاهدت المثال الذى رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة، وأنهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها، وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال".
المهم انتشر الكلام عن التمثال لكن كيف يتحول هذا الجمال إلى حقيقة مجسدة فى شوارع مصر، ومن هنا جاءت فكرة الاكتتاب من أجل التنفيذ الفعلى، وكتبت الصحف "نهضة مصر دعوة إلى الأمة المصرية" وحدث الاكتتاب الشعبى، ثم أكملت الحكومة تكلفة إقامة التمثال حتى تم رفع الستارة عنه فى 20 مايو 1928.
وفيما يتعلق بالاكتتاب وما قام به وأثره على المجتمع، أشار الدكتور عماد أبو غازى لبعض الخطابات التى وجهت إلى مختار ونشرها بدر الدين أبو غازى فى كتابه "المثال مختار" ونقدم نموذجا لأحد هذه الخطابات:
"إننى رجل فقير جدًا، أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتى 70 مليمًا، ومتزوج بيتيمة الأب، وأم زوجتى تبيع ترمسًا، ولى شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسًا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدًا، فسألتنى زوجتى عن سبب بكائى فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معى نقودا أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتى: إنها تتبرع بمائة مليم أيضًا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليمًا فتبرعت بها، ولى طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليمًا فأحضرتهم، فأصبح المجموع 600 مليما، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا فى قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإنى أدعو جميع الفعلة زملائى فى الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله
الشحات إبراهيم الكيلانى
الفاعل بهندسة السكة الحديد بالزقازيق"
للأسف لم تطل الحياة بمحمود مختار فقد أصيب فى يده عام 1932، وعاش أيامه الأخيرة متنقلا بين الأطباء، وكان يحلم بالفن وإقامة تماثيل أخرى لكن المرض لم يمهله فتوفى يوم 28 مارس 1934، رحل متأثراً بمرض سرطان الدم.