ربما كان الانتصار الذى حققه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على حساب زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، بمثابة طوق النجاة لأوروبا، في ظل إيمان الرئيس الفرنسي بأفكار الوحدة الأوروبية، ومساعيه الدائمة لاستعادة الدور الذي يمكن أن تلعبه باريس، عبر قيادة الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يبدو مؤهلا له إلى حد كبير، في ظل غياب المنافسة داخل التكتل، جراء الخروج البريطاني "بريكست"، وتقاعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ناهيك عن الإمكانات التي تحظى بها فرنسا، باعتبارها قوى أوروبية مؤثرة، لديها من التاريخ الطويل ما يؤهلها للقيام بدور أكبر في المستقبل، لحماية القارة العجوز، في ظل تهديدات تبدو خطيرة، على مختلف الأصعدة، سواء على الجانب الأمني، والتي ترتبط في جزء كبير منها بالعملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، وتدفق اللاجئين، أو على الجانب الاقتصادي، إثر التداعيات الكبيرة للأحداث الأخيرة على مستوى الطاقة والغذاء، ناهيك عن استمرار التأثير الذي خلفه الوباء على العديد من الاقتصادات الأوروبية.
ولكن على الرغم من إيجابية فوز ماكرون، إلا أن الاستفادة منه على المستوى القاري، يبقى مرتبطا في جزء كبير منه، بمدى قدرته على حشد المؤيدين لرؤيته أوروبيا، بالإضافة إلى مدى استعداد دول الاتحاد الأوروبي نفسها للتوحد خلفه في المرحلة المقبلة، عبر حوار إقليمي جاد، في ظل تصاعد العديد من القضايا الخلافية، منها الموقف من حلف شمال الأطلسي "ناتو"، ومستقبله، وكذلك قضية أمن الطاقة، والتي ترتبط بالخلاف الكبير مع روسيا، والتي تمثل المصدر الأكبر للغاز الذي تحصل عليه القارة العجوز، وغيرها من القضايا الخلافية، في ظل صعود كبير للتيارات القومية، في العديد من الدول، وفى القلب منها فرنسا نفسها.
فلو نظرنا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، نجد أن لوبان نجحت في الحصول على أكثر من 41% من الأصوات، وهو ما يعني أن نسبة التأييد لها شهدت صعودا ملموسا، إذا ما قورنت بانتخابات 2017، والتي حققت خلالها 34% من الأصوات، وهو ما يعني قدرة حزبها "التجمع الوطني"، على حصد الكثير من المقاعد في الانتخابات البرلمانية المقبلة، بينما تمكنت التيارات القومية من الاحتفاظ بشعبيتها في العديد من الدول الأخرى، من بينها المجر، وهو ما يبدو في احتفاظ فيكتور أوربان، بمنصب رئيس الوزراء في أعقاب الانتخابات الأخيرة، والتي حقق فيها حزبه الأغلبية المطلقة، بالإضافة إلى تواجدهم القوى في دولا أخرى، على غرار ألمانيا، وحتى الولايات المتحدة، التي تمثل الحليف القوى لـ"أوروبا الموحدة"، على الأقل نظريا، مازالت تشهد تصاعدا في شعبية الرئيس السابق دونالد ترامب، رغم خروجه من البيت الأبيض، والمعروف بمناوئته للاتحاد الأوروبي.
ولعل الأزمة الأوكرانية الراهنة، قد وضعت أفاق جديدة لحالة تبدو منقسمة داخل القارة العجوز، في الأيام الأخيرة، في ظل خلافات حاد، حول الموقف من روسيا، وجدوى العقوبات المفروضة عليها، وإمكانية امتداد الناتو إلى دول أخرى في الجانب الشرقى من أوروبا، وكذلك مدى الاعتماد على الغاز الروسى، في المرحلة المقبلة، وهي أمور باتت ترتبط كليا، ليس فقط بالوضع الاقتصادي العام للدولة، وأرقامه "الصماء"، وإنما أيضا بحياة المواطنين، في ظل تضخم متنامي، وركود متصاعد، وبطالة متزايدة، جراء توقف العديد من المصانع في مختلف الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة نظرا لتراجع إمدادات الغاز القادمة موسكو، منذ اندلاع الحرب.
رؤية ماكرون لأوروبا الموحدة، تقوم في الأساس على فكرة "الاعتماد على الذات"، بعيدا عن النهج الذى طالما اتبعته القارة العجوز، لعقود طويلة، عبر الاتكاء على الدعم القادم من الحليف الأمريكي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سواء اقتصاديا، عبر اتفاقات تجارية طويلة الأمد ساهمت في دعم الاقتصادات الأوروبية، أو أمنيا، من خلال الناتو، والذي يمثل خط الدفاع الأكبر للقارة العجوز، أو سياسيا، عبر الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأوروبا، خاصة على المستوى الجماعي عبر تعزيز دور الاتحاد الأوروبي، وبالتالي كان التغيير الكبير في سياسات واشنطن خلال حقبة ترامب، والتي قامت على فكرة التخلي عن الحلفاء، بمثابة صدمة كبرى، حيث دفعت بعض دول القارة إلى البحث عن حلفاء جدد، وإن كانوا في مصاف "الخصوم" بالنسبة لواشنطن، على غرار التعاون مع روسيا في مجال الطاقة، أو الانفتاح نحو الصين تجاريا، وهو ما ساهم في حالة من الانقسام بين دول أوروبا الغربية، حول البقاء في معية أمريكا، أو التمرد عليها.
وهنا تبدو أهمية الدعوة التي أطلقها ماكرون، في 2018، بتأسيس "جيش أوروبي موحد"، على اعتبار أن الاعتماد على "الناتو" ربما لم يعد مجديا، في ظل تغير الأولويات الأمريكية، وهو ما أثار خلافات كبيرة داخل القارة في حينه، إلا أن هذه الدعوة، والتي تعد أحد محاور البرنامج الانتخابي للرئيس الفرنسي، ربما لا تقتصر على الجانب الأمني، وإنما قد تمتد إلى المزيد من الاستقلالية في القرار الأوروبي، ودوائره الدبلوماسية عبر الانفتاح على العديد من الأطراف الدولية الأخرى، من خلال الشراكة معها، في ظل معطيات عدة تدور حول نهاية الهيمنة الأمريكية المطلقة، وصعود قوى يمكنها المنافسة للصعود إلى قمة النظام الدولي، على غرار الصين، ويمكنها التأثير في مجريات الأمور فيما يتعلق بالقضايا الملحة في العالم، وعلى رأسها المخاوف الأوروبية، ناهيك عن تراجع الدعم المقدم من الولايات المتحدة.
أما على الجانب الاقتصادي، فحملت المواقف الفرنسية من موسكو، حالة من "الانحياز المعتدل"، في ظل تأييد مواقف "المعسكر الغربي"، في الوقت الذى اعتمدت فيه باريس نهجا يقوم على الإبقاء على الحوار مع روسيا، ليبقى ماكرون أكثر زعماء أوروبا تواصلا مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، من أجل الوصول إلى حلول جذرية، بعيدا عن لغة الاستعداء الصريح التي تتبناها دولا أخرى، وكذلك الاتحاد الأوروبي نفسه، منذ بداية الأزمة.
ربما يبقى فوز ماكرون "نسمة حياة" لـ"أوروبا الموحدة"، ولكن تبقى الاستفادة منه مرتبطا بضرورة إجراء حوار قاري جاد، حول النقاط الخلافية، وكيفية توحيد الرؤية، في مواجهة التحديات سواء القادمة من الداخل، أو من الخارج، ليحظى بشرعية القيادة القارية، في المرحلة المقبلة، وكذلك لتقديم حلول جذرية للمشكلات القائمة، خاصة مع عدم القدرة حتى الآن للتعامل معها بصورة نهائية.