أنا ضد نظام الدية، وأراه مهدرا لحقوق الضحايا الذين لا يستطيعون التحدث والدفاع عن أنفسهم بعد موتهم، ولا يستطيعون أن يتساءلوا عن سبب مساواة دمائهم بالمال، لكنى أطرح السؤال بدلا منهم: "كيف يمكن مساواة الدم بالمال بعد كل ما أنتجه وينتجه الإنسان من أفكار وفلسفات وأديان وفنون؟ هل تكون نتيجة كل هذا الرقى الذى يدعيه الإنسان، أن نساوى بين الدم والمال؟.
أرى أن الدية ميراث سيئ أخذناه ونحن فى عصر الحداثة من ثقافة بدوية متأخرة، ولا أراها جزءا أصيلا من الدين الإسلامى لا يجوز الفكاك منه.
ومن هذه الزاوية أرى الدية مثلها مثل أحكام الرق والعبودية التى لم يلغها الإسلام وقت ظهوره، حتى لا يقفز على مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى فى البيئة والعصر الذى نزل فيه الإسلام، وبذلك فإننا لا نقبل بأحكام الرق والعبودية الآن، ولا يجوز أن نفرضها بحجة أنها مذكورة فى الدين، وكذلك الأمر بالنسبة للدية، لا يجوز الاحتجاج بأنها مذكورة فى الدين وبالتالى القول بعدم جواز إلغائها، بل يجب إلغاؤها لأنها أقل مما وصل إليه الفكر الإنسانى من ضمانات قوية وواضحة لحياة الإنسان.
إذا كنا لا نريد إلغاءها لأننا نستمرئ ولا نرى غضاضة فى التنازل عن الدم ومبادلته بالمال، بسبب تغلغل الفكر المادى البرجماتى والانتهازية والفهلوة وكل القيم التعيسة الهادمة للمجتمعات فى أفكارنا وضمائرنا، فأصبح فينا من يبيع جزءا من جسمه "الكلية أو غيرها"، وبالتالى يمكن للإنسان بالقياس أن يبيع دم ابنه أو أبيه أيضا. إذا كان الأمر كذلك فلنقل هذا، لكن أسوأ القول وأبأسه هو أن تمسح موقفك الخاص من دم أبنائك المراق، أن تمسح هذا فى أحكام الدين، لتغطى على المعنى الإنسانى القاسي، بأنك تبيع جزءا من جسدك أو دم أولادك، ولا تستخدم رجال الدين فى تبرير موقفك، ولا يجب على رجال الدين أن يلغوا فى الدم المراق والمتاجرة بالدين لصالح علية القوم.
والفرق بين الفكر الحداثى والفكر البدوي، هو أن الثقافة البدوية تضع حق الضحية فى يد عائلته، هى التى لها الولاية على الدم، تطالب به أو تتنازل عنه وتقبل الدية، بينما الفكر الحداثى يقوم على فكرة الوطن بديلا عن العائلة، والوطن هنا تمثله النيابة والقضاء، فهما وليا الدم فى المجتمع الحديث، فلا يحق للعائلة التنازل عن الدم أو عدم التنازل، لأن حق الدم أصلا فى الدولة الحديثة ليس ملكا للعائلة كما هو الحال فى المجتمع البدوى القبلي، وإنما فى يد النيابة والقضاء الممثلين للمجتمع والوطن.
إن التمسك بنظام الدية فى المجتمع الحديث نقيصة كبيرة واعتداء فاضح على حق من أهم حقوق الإنسان وهو القصاص العادل، وهو ليس حق للفرد فقط، وإنما هو حق للمجتمع كله، الذى يحق له أن يضمن سلامة دمائه من العبث على يد من يملكون المال، فيتساهلون فى ارتكاب الحوادث، ما دام المقابل هو المال الذى يملكون منه الكثير، وإن كان الأمر يختلف طبعا باختلاف درجة يسار وغنى المجنى عليه، والذى يتسبب فقره فى الضغط عليه للتفريط فى الدم مقابل المال.
إننا إذن أمام مجتمع يتسبب فقر جزء كبير منه -هذا الفقر فى حد ذاته اعتداء على حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية-، يتسبب فى فقدان هؤلاء الفقراء لحقوق أخرى تخص الحق فى الأمان الذى هو مرتبط بالحق فى القصاص وعقاب المخطئ حتى لا يتساهل غيره فى الخطأ، فيضيع شعور الإنسان بالأمان فى وطنه.
وإذا كنا نوافق على مثل هذه القوانين المهدرة للحقوق، فلا يحق لنا بعدها الاندهاش من رعونة كبار القوم وصغارهم فى قيادة السيارات، ولا يحق لنا أن نردد "هيا الدنيا جرى فيها إيه؟"، لأن ما يجرى فيها من استهانة بحياة الناس ومصائرهم، ليس إلا نتيجة محتومة لتقصيرنا فى عقاب المخطئ فيهم، فينتهى بنا المطاف إلى وضع الفقير فى السجن لأنه لا يستطيع دفع الدية، وإطلاق الغنى لأنه يستطيع دفع الدية، فهكذا مجتمع هو آيل للسقوط، وما الدية وغيرها من الأحكام التى لا تناسب المستوى الذى وصلت إليه المجتمعات الإنسانية فى عصر الحداثة من تقديس وحرص على حياة الإنسان وحقوقه باعتبار أنهما الهدف الأسمى للوجود والتاريخ والمجتمع الإنساني.