رحل أستاذى الكاتب الكبير صلاح منتصر، الصحفى القدير صاحب القلم الراسخ، وصاحب مدرسة كبيرة كنت وزملاء جيلى فى مجلة أكتوبر من تلامذته تعلمنا على يديه الكثير، وعشنا سنوات إلى جواره نتعلم أصول التحقيق الصحفى، وحلاوة الحصول على خبر متفرد، وأهمية الحوارات باعتبارها تسجيل لجانب من تاريخ مصر، بل وكل تفاصيل العمل الصحفى .
كان الأستاذ صلاح كثيرا ما يفاجئنا فى الصباح وقد اتخذ مكانه فى مكتب الصحفيين الشبان – كما كان يطلق علينا - يحاورنا ويتحدث معنا فى أمور شتى، يسأل كل منا عن أخباره وعما يفكر فيه، يضيف إليه أو ينبهه لأمر ما فيما هو مقبل عليه . ثم يحدثنا كثيرا عن ذكريات طفولته وصباه، وكان فخورا بكونه عصاميا، وبكونه من مدينة دمياط التى لا تعرف البطالة، ولا يجد غضاضه من أن يحكى لنا كيف كان يعمل فى مدينة رأس البر صيفا فى أعمال بسيطة مثل وضع الشماسى على الشاطئ إو بيع الفريسكا أو غيرها من الأعمال، التى تساعده فى دراسته حيث تربى يتيما، وظل يحمل الفضل لعمه ولشقيقه الأكبر الذى رباه، وظل وفيا له فى أبنائه بعد وفاته وكان منهم زميلنا المرحوم الأستاذ إسماعيل منتصر الذى تولى نفس مكانة الأستاذ صلاح فى مرحلة تالية.
عندما ترأس صلاح منتصر مجلس إدارة مؤسسة دار المعارف وتحرير مجلة أكتوبر كان خلفا للأستاذ الكبير أنيس منصور، الذى أسس هذه المجلة وذاع صيتها فى عهده، حتى أن بعض أعدادها كانت تباع فى السوق السوداء، وقوبل صلاح منتصر بتحديات كبيرة، مع بداية توليه هذه المسئولية فقد أحجم العديد من المحررين على التعاون معه احتجاجا على رحيل الأستاذ أنيس عن المجلة، وبعضهم اعتبره دخيلا عليها، وكان البعض يعتقد أن هناك حربا دائرة بين الفريقين، وأن علاقة الأستاذان غير طيبة !
لكن الحقيقة أنه لا شيء من هذا حقيقى، بل كانت تربطهما علاقة طيبة شاهدتها بعينى، لكن الأستاذ صلاح تجاوز كل تلك المصاعب بالاستعانة بجيل من الشباب كنت حينها واحدة منهم، ولم يكتف بنا بل كانت مجلة أكتوبر زاخرة بكبار كتاب الرأى والمقالات التى ميزتها كثيرا عن غيرها من المجلات. كما أفسح المجلة لنشر مذكرات والحوارات مع عدد من السياسيين والمسئولين والفنانين، حتى انه كثيرا ما كان يسبق الجرائد اليومية بسبق صحفى تنفرد به المجلة فى عهده .
كان صحفيا محترفا بمعنى الكلمة، وكاتبا من العيار الثقيل، ربما عرفه معظم القراء من خلال عموده اليومى بجريدة الأهرام " مجرد رأى "، لكنى أعتقد أن تجربته فى مجلة أكتوبر تجربة ثرية تستحق التأمل .
لعل من أبرز مميزات الأستاذ صلاح منتصر الكاتب انه يستطيع دائما أن يجد زاوية مختلفة للرأى، ونظرة ورؤية متفردين، وربما لا يعلم الكثيرون انه بدأ محررا اقتصاديًا وحقق نجاحًا كبيرا فى جريدته العريقة جريدة الأهرام، لكنه لم يحصر نفسه فى هذا التخصص، بل برع فى كتابة المقال السياسى والاجتماعى، واستطاع أن يحافظ على مكانته ككاتب محافظ وقدير، حتى أثناء مرضه وحتى أيامه الأخيرة، لدرجة أن كثيرين من محبيه فوجئوا بخبر وفاته كما فوجئت به .. رحم الله الأستاذ الكبير .