"المستريح".. لقب انتشر مثل انتشار النار فى الهشيم، ليحل محل "شركات توظيف الأموال" فى كيفية تنفيض جيوب الناس، وكأنه ساحر، أو يمتلك قدرات خاصة فى كيفية التنويم المغناطيسي لضحاياه، الذين يصل عددهم الآلاف، ليحصل منهم على تحويشة عمرهم، بإرادة حرة، واقتناع تام، تحت زعم استثمارها، مقابل عائد يصل مائة فى المائة شهريًا.
وبداية ظهور لقب "المستريح" كان فى جنوب صعيد مصر –للأسف- وتحديدًا فى محافظة قنا، عندما اشتهر أحمد مصطفى إبراهيم، بهذا اللقب "المستريح" والذى استولى على نحو مليارى جنيه من أموال المواطنين معظمهم بقرى مركز دشنا، وتم القبض عليه عام 2015 وتقديمه للمحاكمة التي قضت بحبسه 15 سنة، وأيدته محكمة النقض عام 2017 مع إلزامه برد 266 مليون جنيه للمدعين بالحق المدني.
وكان "مستريح" قنا، حاصلاً على دبلوم، واستطاع إيهام عملائه، بأنه يستثمر الأموال التى يحصل عليها فى كروت الشحن، بجانب شركة بتروكيماويات، وأنه بصدد إنشاء مصنع أسمدة ضخم، ومكاسبه ستكون كبيرة، فتزيد الفوائد الثابتة شهريًا، وللأسف، كان لديه القدرة على إقناع العُمد والمشايخ والأعيان والمثقفين، باستثمار أموالهم، بفائدة تصل 100%، وكان ملتزمًا معهم التزامًا صارمًا في صرف الفائدة في مواعيدها المتفق عليها، والهدف، توظيفهم "طُعما" لاصطياد البسطاء، بأن يروج لأسماء هؤلاء الأعيان والعمد والمشايخ، بتوظيف أموالهم معه، فيطمئن البسطاء، ويسارعون بوضع أموالهم طمعًا في الاغتناء الفاحش.
ورغم، انتشار قصة "مستريح" قنا، إلا أن الظاهرة استمرت وانتشرت في عدد من المحافظات، واستفحلت في أسوان، عندما ظهر فجأة سائق التوك توك، مصطفى البنك، مرتديًا ثياب الزهد والتقوى، وبدأ يروج بأنه مبعوث "السيدة زينب" لنشر الرخاء، وتقديم الخير الوفير للبسطاء، فسارع أهالى أسوان في منافسة شرسة بتقديم أموالهم وأراضيهم ومواشيهم، بكل "أريحية" لـ"المستريح" دون منطق، أو تحقق من إمكانيات وقدرات سائق "توك توك" لم يتجاوز العشرينات من عمره، وهل يمتلك أي إمارة اقتصادية، أو عبقرية في إدارة المحافظ المالية، أو خبرات في أسواق التجارة!
مستريح أسوان، ومن قبله مستريح قنا، وما بينهما عشرات المستريحين في المحافظات المختلفة، استطاعوا أن يتفوقوا على كل المراكز والمؤسسات المتخصصة في علم الإحصاء والاقتصاد، بجانب خبراء الاقتصاد، في إعادة التعريف بنظريات الفقر في مصر، وتؤكد أن هناك فارقًا شاسعًا بين "النظريات على الورق" وبين "الواقع على الأرض" من حيث أرقام ونسب وتوصيف الفقر، بجانب وهو الأهم، حجم الاقتصاد الخفى وأشكاله المتعددة.
المستريحون الجدد، كشفوا "عوار" حقيقيًا يصل إلى حد التقصير والأمية المفرطة في معرفة وتحديد نشاط الاقتصاد الخفى، وأشكاله، في القرى والنجوع والمدن بمحافظات الجمهورية المختلفة، ومن ثم غياب الأرقام والتوصيف الصحيح للفقر والبطالة، على وجه التحديد!
المستريحون الجدد، كشفوا عن أن الأرقام المدونة في تقارير الفقر، بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقى، فهل يعقل أن عددًا من القرى المصنفة بأنها الأكثر فقرًا، يخرج من جيوب أبنائها المليارات وإلقاؤها بين أيادٍ "نصابين" ثم يُصنف هؤلاء بأنهم الأكثر فقرًا؟
نحن لا ننفى وجود فقر، ولا يوجد دولة في العالم، بما فيها الدول الكبرى من عينة الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان والصين وغيرها، لا يوجد بين مواطنيها فقراء، ولكن نطالب فقط تصحيح مفاهيم وأرقام ونسب الفقر، من الواقع، بعيدًا عن النظريات المدشنة من خلف المكاتب، أو استطلاعات رأى نظرية بالتليفون، أو بطرح أسئلة ساذجة، لا تضمن مطلقًا الحصول على إجابات صحيحة!
المستريحون، تفوقوا على خبراء وجهابذة الاقتصاد في توصيف الفقر، وعدد الفقراء، وفى القرى الأكثر فقرًا، وأن هناك مشكلة خطيرة تتمثل في غياب فقه الأولويات، بأن قاطن القرية لا يهمه بناء منزل جيد بقدر أهمية "تحويش" الفلوس، ولا مانع من أن يضعها في "حجر" مستريح نصاب، فلا يمكن الحكم عليه بعدم القدرة من خلال منزله البسيط المبنى من الطين!