ربما كان سقوط حائط برلين، وتوحيد الألمانيتين، هو بمثابة النهاية الفعلية للاتحاد السوفيتي، قبل حوالي 3 عقود من الزمان، ليضع هذا الحدث كلمة "النهاية"، لحقبة "الثنائية" القطبية، التي سادت العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وتبدأ مرحلة الهيمنة الأمريكية المطلقة، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لحقيقة مفادها أن إرهاصات انهيار الكتلة الشرقية جاءت من أوروبا الغربية عبر بوابة برلين، والتي أصبحت عاصمة ألمانيا الموحدة بعد ذلك، لتضع بعد ذلك نفسها في موضع القيادة القارية بمباركة واشنطن على حساب القوى الرئيسية في القارة العجوز، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وهو ما وصل إلى ذروته في عهد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي احتفظت بالسلطة لأكثر من 15 عاما.
ولعل القيادة الأمريكية، سواء لدول المعسكر الغربي خلال حقبة الحرب الباردة، أو للعالم بأسره إبان عصر الهيمنة المطلقة، ارتبط بالقبول الأوروبي للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم، لتصبح القارة وسيلة لـ"شرعنة" الرؤى الأمريكية، وتمريرها، وهو ما بدا على سبيل المثال إبان الغزو الأمريكي للعراق في 2003، ليقدم التحالف الأمريكي مع لندن وباريس، بديلا لـ"الشرعية الأممية"، عبر ما سبق وأن أسميته في مقال سابق بـ"شرعية التحالفات"، وهو ما يمثل انعكاسا مهما للدور الكبير الذي لعبته أوروبا الغربية في إرساء القيادة الأمريكية وتثبيتها على المستوى الدولي، خاصة مع امتلاكها الكثير من أوراق الضغط، على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والتي كرستها في خدمة الأهداف الأمريكية، سواء بالمنح أو المنع، طبقا لما تتطلبه الظروف، تجاه العديد من الأطراف الأخرى في المجتمع الدولي، سواء بالمشاركة في المعونات، أو العقوبات، بمقدار مدى ولاء كل طرف للقيادة الدولية المتمثلة في الولايات المتحدة.
وهنا يصبح التغيير في التوجهات الأوروبية، بمثابة "خطر" حقيقي على القيادة الأمريكية، وهو ما تجلت إرهاصاته، في حالة الانفصال بين الولايات المتحدة والقارة العجوز، خاصة فيما يتعلق بالثوابت التي مثلت أهم أبعاد العلاقة بين الطرفين، على غرار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسى "ناتو"، التي باتت تمثل أحد أهم أطراف الأزمة الراهنة مع روسيا، في إطار تمدد الحلف إلى مناطق روسيا الجغرافية، وهو ما أدى في النهاية إلى الاشتباك الحالي، في إطار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي قد تتطور إلى معركة شاملة، سوف تأكل الأخضر واليابس حال توسعها إلى درجة الحرب.
إلا أن الكرة، على ما يبدو مازالت في ملعب أوروبا الغربية، على غرار الوضع إبان الحرب الباردة، والتي انتهت عمليا بسقوط حائط برلين لصالح واشنطن، ليكون الإعلان عن الحقبة الدولية الجديدة آنذاك من أراضيها، حيث تبقى المبادرات الفرنسية، وأخرها الدعوة إلى إطلاق منظمة أوروبية سياسية جديدة، بالإضافة إلى دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السابقة، والتي ترجع إلى عام 2018، بتأسيس ما أسماه "جيش أوروبي موحد، بمثابة "سقوط" جديد لـ"ثوابت" النظام الدولي القائم، ناهيك عن المستجدات، خاصة على الجانب الاقتصادي، التي باتت تدفع العديد من دول القارة إلى إنهاء الارتباط بواشنطن، سواء فيما يتعلق بالمواقف الاقتصادية أو السياسية.
الأوضاع الاقتصادية هي الأخرى باتت تفرض معطيات جديدة على الواقع الأوروبي في المرحلة الراهنة، وهو ما يبدو في العجز عن سد احتياجات القارة من مصادر الطاقة، وبالتالي اضطرار العديد من دولها الالتزام بالشروط الروسية، والتي وصلت إلى حد "الدفع بالروبل"، من أجل تأمين حاجتها من الغاز، وهو ما يثير التساؤلات حول مستقبل ارتباط العملة الأوروبية بالدولار في المرحلة المقبلة، مع التوسع المرتقب في التعاون مع الصين، تجاريا، وهى الأمور التي تصب في مجملها في صالح حقيقة مفادها أن الهيمنة الأمريكية المطلقة تبدو على أعتاب النهاية، ولكن بـ"يد" الحلفاء الأوروبيين، ربما أكثر من الخصوم.
فلو نظرنا لمقترح ماكرون، فيما يتعلق بتأسيس منظمة سياسية أوروبية، ربما نجد أنه يحمل في طياته، محاولة لتقديم "بديل" للاتحاد الأوروبي، رغم نفيه المطلق لهذا الطرح، حيث يبقى الهدف الرئيسي وراء هذه الخطوة، إلى جانب "لم شمل" الأوروبيين، بعد سنوات الانقسام، بسبب الخلافات الكبيرة في السنوات الماضية، ناهيك عن الخروج البريطاني، أنها تمثل مسعى لخلق كيان يمكنه التفاوض مع موسكو، عبر توجهات تتسم باستقلاليتها عن الولايات المتحدة من جانب، ويمكنها تشكيل رؤيتها القائمة على ضرورة استقرار أوروبا، سياسيا او اقتصاديا، بعيدا عن سياسات الدعم الأمريكي، وذلك بعد منهج التخلي الذى تبنته واشنطن تجاه شركائها، خلال السنوات الماضية، سواء بفرض تعريفات جمركية على التجارة القادمة من أوروبا، أو التحرك الصريح نحو تفكيك الاتحاد الأوروبي خلال حقبة ترامب، عبر تقديم الوعود السخية لبريطانيا مقابل انفصال "خشن" من أوروبا الموحدة، ناهيك عن التلويح المتواتر بالانسحاب من الناتو.
ويعد التلويح الأمريكي بالانسحاب من الناتو، بمثابة الدافع الأكبر للمبادرة الفرنسية الأولى بتكوين جيش أوروبي موحد، وإن كان الهدف الرئيسي كان معلنا، ليكون بديلا للتحالف الذى وصفه ماكرون حينها بـ"الميت إكلينيكيا"، مما أثار غضب واشنطن، وجدلا كبيرا في الأوساط الغربية، إلا أن المقترح نال إعجاب موسكو بصورة كبيرة، في ظل رؤيتها القائمة على استمرار الناتو وتمدده يشكل تهديدا صريحا لأمنها، إلى الحد الذي دفع إلى الوضع الراهن ما ترتب عليه من تداعيات كارثية، تجلت بوضوح في موجة عالمية من التضخم، ونقص كبير في عدد من السلع الغذائية، بأعتى الدول المتقدمة.
وهنا يمكننا القول بأن مصير النظام العالمي يبدو مرتبطا إلى حد كبير بأوروبا الغربية، ولكن هذه المرة في قدرة باريس على إسقاط "ثوابت" المعسكر الغربي القديمة، أو بالأحرى الانقلاب عليها، على غرار ما حدث في برلين قبل أكثر من 3 عقود، عندما سقط حائط برلين منهيا انغماس الجانب الشرقى من ألمانيا في النظام الشيوعي السوفيتي، والتوحد مع الجانب الغربي من البلاد، لتسقط معه أهم أعمدة الاتحاد السوفيتي، ليكون الانهيار النهائي بحوالي عامين، في ظل طموحات الرئيس الفرنسي في القيادة القارية في المرحلة الراهنة، وهو الأمر الذي يبدو واضحا في تحركاته منذ اعتلائه عرش الإليزيه قبل 5 أعوام، لتكون منطلقا نحو دور أكبر على المستوى الدولي في المرحلة المقبلة، وهو ما ساهم في نجاحه الكبير في الاحتفاظ بقدرته على القيام بدور بارز خلال الأزمة الراهنة مع أوكرانيا، مما يعكس دبلوماسية تحمل قدرا من التوازن، بعيدا عن المواقف السابقة التي طالما تبناها الأوروبيين والتي اتسمت بميلها الحدي نحو واشنطن.