يبدو أن العالم أمام مرحلة تبدو صعبة للغاية فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، إثر العديد من العوامل، أبرزها الأزمة الأوكرانية، وما ترتب عليها من عملية عسكرية روسية، قد تتطور إلى حرب شاملة، لن تقل ضراوة عن حقبة الحروب العالمية، فى ظل موجات عالية، وقد تكون غير مسبوقة، من التضخم، تجتاح كافة دول العالم، وتداعيات ذلك من إجراءات قاسية، عبر تغيير كبير فى أسعار الفائدة، وقيمة العملات حول العالم، ناهيك عن خطورة توقيت الأزمة، والتى جاءت بينما ما زال لم يتعاف العالم من الآثار الاقتصادية العميقة للجائحة، وما شهدته من فترات طويلة للإغلاق أدت إلى توقف الإنتاج، أو على الأقل تباطؤه بدرجة كبيرة، مما دفع المؤشرات الاقتصادية لأكثر الدول تقدما حول العالم، نحو أرقام سلبية، من حيث النمو، بالإضافة إلى تزايد البطالة، والغلاء.
وهنا يصبح الوضع الاقتصادى العالمى، فى المرحلة الراهنة، استثنائيا، مما يدفع نحو الحديث عن معايير التقييم، فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمات المتلاحقة، وتداعياتها، بعيدا عن الأساليب التقليدية، والتى دائما ما تعتمد على "لغة الأرقام"، خاصة وأن التراجع الحاد يبدو حالة عامة، وبالتالى فلا يجوز الاعتماد عليها بصورة كلية، وإن كنا لا نستطيع فى الوقت نفسه تجاهلها تماما، ولكن ينبغى النظر إليها فى إطار أعم وأشمل، طبقا للظروف سواء فى الداخل بالنسبة لكل دولة، أو ما يرتبط بالوضع الدولى العام، فى ضوء الأحداث والمستجدات التى يشهدها العالم فى الآونة الأخيرة، وما سوف تسفر عنه من تداعيات.
ولعل مسألة تقييم الأداء الاقتصادى باتت تحمل أبعادا مختلفة، مقارنة بعقود سابقة، فى ظل تغييرات تبقى عميقة فى بنية النظام الدولى، بشكل عام، وهو ما يتجلى بوضوح فى مسألة قيمة العملة، حيث لم تعد مسألة مفصلية، فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية فى الدولة، خاصة مع صعود قوى دولية، عملاقة اقتصاديا يمكنها المنافسة، على غرار الصين، والتى لاحقتها اتهامات من قبل خصومها فى الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بالاحتفاظ بـ"اليوان" بأقل من قيمته الحقيقية، وهو الأمر الذى ساهم فى اختراق المنتج الصينى للأسواق العالمية، وفى القلب منها السوق الأمريكى، وهو ما دفع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى إطلاق حملة تستهدف بكين اقتصاديا، بل ودعا البنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، إلى تخفيض أسعار الفائدة فى عام 2018، على اعتبار حقيقة مفادها أن قوة العملة لم تعد بالضرورة انعكاسا لقوة الاقتصاد، وهو ما كان سائدا لسنوات فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إثر غياب المنافسة مع الاقتصاد الأمريكى، نتيجة الدمار الذى لحق بالعديد من الدول، خاصة فى أوروبا، نتيجة الحروب المتتالية.
ولكن مع اختلاف الظروف، وصعود قوى دولية عملاقة اقتصاديا، يمكنها الإنتاج والمنافسة، لم تعد قوة العملة، معيارا، أو على الأقل المعيار الوحيد لقوة الاقتصاد، بل على العكس ربما تكون العملة المبالغ فى قوتها من حيث "سعر الصرف" الخاص بها، عبئا على الدولة، بسبب عدم القدرة على التصدير أو المنافسة فى الأسواق العالمية، نتيجة وجود منتجات أخرى بنفس الجودة ولكن أسعارها أقل، مما يمنح الأخيرة ميزة هامة لدى المستهلكين، وهو الأمر الذى لا يصب فى صالح الدولة على الإطلاق.
الأمر نفسه يبدو مختلفا فى ظل الأزمات، خاصة وأنه لا يمكن بأى حال من الأحوال الاعتماد على الأرقام التقليدية، من حيث معدلات النمو الاقتصادى، خاصة وأن التراجع يبدو عاما فى كل دول العالم، أو معدلات التضخم، لأنه بات حالة عامة، ترتب عليها الغلاء، فى كل الأنحاء، نظرا للظروف المحيطة بالعالم، والتى ترتبط بنقص الواردات من الأغذية، ومصادر الطاقة، بسبب الحرب الدائرة فى أوكرانيا، وبالتالى تبقى الحاجة ملحة إلى رؤية مختلفة فيما يتعلق بتقييم الأوضاع الراهنة، والإجراءات التى اتخذتها الدول فى التعامل معها.
فلو نظرنا، على سبيل المثال إلى النموذج المصرى، باعتباره الأقرب إلينا، ربما نجد أن معايير التقييم ينبغى أن تضع فى الاعتبار الإجراءات التى اتخذتها الحكومة للحد من تداعيات الأزمات المتلاحقة، جنبا إلى جنب مع لغة الأرقام التقليدية، والتى حققت مؤشرات إيجابية فى ظل أزمة كورونا، فى الوقت الذى شهدت فيه دولا كبرى "أرقام سلبية"، فيما يتعلق بمسألة النمو الاقتصادى، وهو ما يعكس النجاح منقطع النظير الذى حققته الدولة فيما يتعلق بسياسة الوقائية، والتى ترتبط بالاستعداد للطوارئ، التى من شأنها تعطيل عجلة النمو والتنمية، بل ونجحت فى تلك الفترة فى مواصلة مشروعاتها التنموية، فى الوقت الذى اتجهت فيه دولا أخرى للإغلاق التام.
ولكن يبقى المعيار الأهم لنجاح الدولة المصرية فى التعامل مع أزمة كورونا، بعيدا عن الأرقام الصماء، متجليا فى الاستعداد الجيد والقدرة على التعامل مع أزمة طارئة وغير متوقعة، وهو ما يعكس وجود خطة واضحة للتعامل مع هذه الحالات فى إطار من الوقائية، إلى الحد الذى سمح بمواصلة العمل على المشروعات التنموية، وتوفير السلع، بالإضافة إلى العودة السريعة إلى الحياة الطبيعية، من أجل مواصلة العمل، عبر حملات توعوية لاحتواء تفشى الوباء.
وعلى نفس المنوال، يمكننا النظر إلى الكيفية التى تعاملت بها الدولة، فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية الحالية وتداعياتها، والتى تدور فى معظمها حول الإجراءات التى اتخذتها الحكومة، قبل اندلاع الأزمة، فى إطار "وقائي"، عبر زيادة المساحات المزروعة من القمح، وتدشين الصوامع، والعمل على تطوير حقول الغاز الطبيعى، بالإضافة إلى العمل على تحويل مصر إلى أحد أكبر مراكز الغاز المسال فى العالم، مما ساهم فى الحد من التأثيرات الكبرى التى تعانى منها دول العالم أجمع، وهى نقص الغذاء والطاقة، بالإضافة إلى توفير السلع، فى الوقت الذى تشهد فيه دولا أخرى نقصا حادا فى سلع رئيسية، وهو ما يظهر فى تحديد الكميات التى ينبغى على المستهلك الحصول عليها، فى الأسواق، وعدم تجاوزها، فى دول معروفة بقدراتها الاقتصادية العملاقة.
وهنا يمكننا القول بأن التقييم، فى ظل الأزمات، لا يمكن أن يكون مقتصرا على فكرة الأرقام، وإنما بات يحمل أبعادا عدة، أهمها قدرة الدولة على التقليل من أثار الأزمة وتداعياتها، خاصة وأن العالم كلة بات مرتبطا ببعضه، ولا يمكن أن تكون هناك دولة بعينها بمعزل عن التداعيات الكبيرة للكوارث الدولية، وهو الأمر الذى ينبغى وضعه فى الحسبان عند تقييم تجارب الدول الاقتصادية فى المرحلة الراهنة، وفى القلب منه الدولة المصرية، والتى ربما كانت تخوض معاركها على أكثر من جبهة، فى السنوات القليلة الماضية، لتدارك أثار الفوضى التى حلت بمنطقتها بالكامل مع بداية العقد الماضى، ولكنها لم تتجاهل فى الوقت نفسه اتخاذ نهجا وقائيا من شأنه التقليل من آثارها، ويساهم بصورة كبيرة فى تحقيق تعاف سريع بعد اندلاعها.