ربما تجاوزت كرة القدم مجرد كونها "لعبة"، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة بصورتها العامة، وفي القلب منها السياسة والاقتصاد، بل وامتدت إلى العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وباتت أحد أدوات النفوذ الدولي، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد التي ربطت بين "الساحرة المستديرة"، من جانب، والعلاقات الدولية من جانب أخر، ربما بعضها ليس وليد اللحظة، على غرار اللقاء الشهير الذي جمع بين الولايات المتحدة وإيران، إبان كأس العالم 1994، والذي ارتبط، رغم كونه مباراة في كرة القدم، بالعلاقات المتوترة بين البلدين، إلى حد وصفها بـ"أم المباريات" خلال تلك البطولة، في انعكاس صريح للوضع السياسى وتداعياته على المستطيل الأخضر مهما كانت الشعارات التي يرفعها الاتحاد الدولي للعبة حول انفصالها وقوانينها عن السياسة.
إلا أن الأمور ربما تطورت إلى حد كبير مع مرور الوقت، فالارتباط بين اللعبة الأكثر شعبية في العالم، والأوضاع السياسية والعلاقات الدبلوماسية، لم يعد مجرد "مانشيت" صحفي، أو جدل إعلامي حول طرفي المباراة، على غرار اللقاء التاريخي الشهير، وإنما تحولت إلى ما هو أبعد من ذلك، عبر تأثيرها الكبير، الذي بات يرتبط بنظريات "النفوذ" الدولي، وهو ما يبدو على سبيل المثال، في المنافسات الكبيرة بين الدول حول استضافات البطولات الكبرى، وكذلك "صراع الفضائيات" للحصول على الحق في شراء المباريات الكبرى، على اعتبار أن هذه القنوات، باتت جزءً من أدوات الدول، وبالتالي انتشارها عالميا بفضل "اللعبة" يمثل جزءً من التأثير الذي تتمتع به الدولة في محيطها الدولي.
ارتبطت كرة القدم كذلك بالعلاقات بين الشعوب، وهو ما تترجمه أجواء المباريات المشحونة، سواء بين الأندية، على غرار ما يسمى بـ"كلاسيكو الأرض"، بين ريال مدريد وبرشلونة، والذي يحمل في طياته بعدا سياسيا، على خلفية رغبة إقليم كاتالونيا، في الانفصال عن مدريد، أو على مستوى المنتخبات، كلقاءات منتخبي إنجلترا وأسكتلندا، والتي تحمل في طياتها رغبات انتقامية بسبب الاحتلال الإنجليزي لأسكتلندا، وهو الأمر الذي يرتبط بالجماهير أكثر منه على المستوى الرسمي، وإنما تبقى مؤثرة حال تطور الأمور في شكل العلاقات.
دور كرة القدم لم يقتصر على فكرة النفوذ أو العلاقات بين الدول، وإنما أصبحت كذلك أداة عقابية، يمكن استخدامها لممارسة الضغوط على دولة بعينها، وهو ما يبدو على سبيل المثال في الأزمة الأوكرانية الراهنة، حيث واجهت موسكو عقوبات "كروية" متنوعة بدءً بحرمانها من استضافة نهائي دوري أبطال أوروبا، ونقله إلى العاصمة الفرنسية باريس، مرورا بحرمان الأندية والمنتخب الروسي من المشاركة في البطولات الدولية، وهو ما يعكس امتداد التأثير الذي باتت تتمتع به اللعبة، لتتجاوز نطاق "المستطيل الأخضر"، وتصبح أداة دبلوماسية هامة، بل وأنها انتقلت من مرحلة إلى أخرى، من حيث الدور الذي يمكنها القيام به.
فلو نظرنا إلى ما يمكننا تسميته بمراحل تطور "دبلوماسية كرة القدم"، نجد أنها كانت تحمل في البداية صورة "ناعمة" لفكرة النفوذ الدولي، عبر الشعبية الكبيرة للدول المتفوقة كرويا، سواء على مستوى المنتخبات أو الأندية، والتي حظت بكل تأكيد بحب الشعوب المحبة لـ"الساحرة المستديرة"، على غرار المنتخب البرازيلي، خاصة بين السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بينما انتقل دورها جزئيا نحو منطقة أكثر "خشونة" عبر الإعلام، لتكون القنوات الناقلة للمباريات الكبرى، بمثابة منصات يمكنها الترويج لرؤى معينة لخدمة أجندات دولها، أو الكيانات الموالية لها، في حين أصبحت في نهاية المطاف "عصا" في وجه المارقين، عبر استخدامها في إطار العقوبات الدولية، وهو ما يمثل نقلة جديدة، في الدور الذى يمكنها القيام به على الصعيد الدولي، في ظل قدرتها على إضفاء المزيد من العزلة على الدول التي قد تحرم من "جنة" المستطيل الأخضر.
وهنا يمكننا القول بأن النهائي الأخير لبطولة دوري أبطال أوروبا بين ريال مدريد وليفربول، ربما لم يقدم جديدا من حيث الصراع الأوروبي بين الأندية الإسبانية والإنجليزية، على البطولة في السنوات الأخيرة، وإن كانت هناك بعض المناوشات الألمانية، إلا أنها تمثل، عبر ملعب المباراة، وجها جديدا يبدو "خشنا" خارج الملعب، فيما يتعلق بإدارة العلاقات الدولية والصراعات الجديدة داخل العالم، وهو ما يمثل انعكاسا لتنوع الأدوات الدبلوماسية التي يمكن استخدامها، وتداخلها، لتصبح ممتدة وغير محدودة بنطاق معين.