كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وغطت أجنحة الظلام شوارع روما، وعم الهدوء مقبرة الجندى المجهول في ساحة بيازا فينسيا، ولم يعد من الممكن رؤية أهل إيطاليا يتجولون في الطرقات، لاسيما بعض سكان الليل الذين تلفظهم الحانات واحدًا تلو الآخر.
تقاطعت طرقنا للمرة الأولى، فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها أوروبية المظهر، ذهبية الشعر، تحمل على ظهرها أثقال حقيبة ملابس تكفيها لأيام قليلة، تبادلنا ابتسامات صامتة، عرفت خلالها أنها متوجهه لنفس مكان إقامتى، فسرنا على نفس الدرب دون اتفاق، لتكتمل الجمعة في وجودها معى بنفس الغرفة.
خرجت للحظات أشتم نسيم تاريخ الروم من النافذة، لأعود بعدها أكتشف لمعة واضحة في عيونها، تملكنى الفضول لحالها ، خاصة حين عرفت أنها سترحل صباحًا رغم علامات التعب والإرهاق البادية عليها، فما كان منها فور سؤالى إلا سيل من الدموع بدأت قصيدة الأوجاع تحفر سطورها فى قلبى.
كاميلا أوكرانية الجنسية أجبرتها الحرب فى بلادها على الرحيل، تاركة وراءها والدها وأخيها وحبيبها الذين لم تسمح لهم القوانين، الهجرة معها فالحرب تحتاج الرجال، وعلى النساء تقبل المنح الدولية، أمها أيضًا امرأة لكنها فضلت البقاء لدعم باقى أسرتها بينما علقوا آمالهم على حياة أفضل لكاميلا التى وصلتها منحة أمريكية للدراسة والعمل فى أرض الحريات ، 10 ساعات كاملة فى محل لبيع الملابس، وتستطيع أن تدرس فى ساعات الليل الجيولوجيا لمدة 6 شهور، فإما تضع الحرب أوزارها وتعود إليهم آمنة بتجربتها وإما أن تمد لها المنحة أشهر أخرى.
شرحت كاميلا كيف أن تأشيرة منحتها مازال على موعد بدءها نحو أسبوع، ولأنها لن تستطيع أن تبقى في بلدتها الأوكرانية، وكذلك لا حق لها في التواجد بأمريكا قبل ذلك، فقررت كباقي نظرائها من المهاجرين استخدام مزايا المساعدات الأوروبية المتمثلة إحداهم في مجانية استقلال القطار الدولي ، وتنتقل بين دول الاتحاد الأوروبى حتى يحين موعد دخول الولايات المتحدة، ولكى ترتاح قليلًا فهي تمكث في كل مدينة أوروبية ليلة واحدة تبيت فيها داخل أحد النزل رخيصة الثمن، لتعود في الصباح تكمل رحلتها للبلدة الأخرى حتى موعد طائرتها إلى نيويورك.
فى الصباح طلبت منها البقاء ليلة أخرى ترتاح فيها قليلًا، ونستطيع خلالها الاستمتاع بتاريخ شوارع روما المكتوب على جدرانها، فاجئتنى فرحتها، فهى وحيدة منذ غادرت أسرتها قبل شهرين، وطلبت منى مساعدتها في الوصول إلى نافورة تريفى والتى تحلم بإلقاء القليل من السنتات الأوروبية بها حتى يتحقق حملها، سألتها بعد أن قبلت العملة الأوروبية مغمضة العينين عن حلمها، فأجابت:تمنيت العودة إلى عائلتى فى أوكرانيا وليس بلدًا أخر، لا أحلم بالسير وحيدة فى شوارع نيويورك او التايمز سكوير فقط أحلم بالعودة إلى كييف .
يومًا آخر عشته مع كاميلا، لم أنتبه فيه إلى جمال البيتزا الإيطالية و"الجيلاتى" والمكرونة المنتشرة فى كل مكان، عدت فقط إلى تريفى فاونتن، وألقيت يوروهات ثلاثة تمنيت بها السلام فى أوكرانيا، وعودة كاميلا إلى أحضان عائلتها قبل أن تغتصب الغربة والحرب مراهقتها البريئة.