ربما لم يكن افتتاح مجمع الإنتاج الحيواني والألبان، في مدينة السادات، ليس أكثر من حلقة جديدة من مسلسل "بناء الأمن" في الدولة المصرية، والذي بدأ منذ اللحظة الأولى لميلاد "الجمهورية الجديدة"، قبل 8 سنوات، بدءً من الحرب على الإرهاب، باعتباره التحدي الأول والأبرز الذي واجهته البلاد، حيث قامت الاستراتيجية المصرية، ليس فقط على الأداة الأمنية التقليدية، كما جرت العادة في العهود السابقة، وإنما حملت أبعادا أخرى، أبرزها الجانب الفكري، والذي يعتمد تدشين حملات تهدف في الأساس إلى تصحيح الأفكار المغلوطة التي دأبت على نشرها جماعات الظلام، بينما كان الجانب الأخر اقتصاديا، من خلال اختراق كافة المحافظات المصرية والمناطق النائية التي عانت عقودا طويلة من الإهمال، وهو ما فتح الباب أمام تحسين أوضاع قطاع كبير من الشباب الذين كانوا بمثابة فريسة سهلة لتلك الجماعات بسبب ظروفهم الاقتصادية الصعبة.
ولكن بعيدا عن فكرة الإرهاب، والتي سبق وأن تناولنا الكيفية التي أدارت بها الدولة المصرية معركتها معه لسنوات في مقالات سابقة، تبقى عملية "بناء الأمن" ممتدة بعيدا عن المفهوم التقليدي، فهناك جوانب أخرى، ركزت عليها "الجمهورية الجديدة"، مع انطلاقة عهدها، ربما أبرزها مسألة "الأمن الغذائي"، والتي ترتبط ارتباطا مباشرا بالمشروع الذى افتتحه الرئيس مؤخرا بمدينة السادات والذي يهدف في الأساس إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما يتعلق بالإنتاج الحيواني ومنتجات الألبان، وهو ما يعكس حالة من الانسجام مع خطوات سابقة اتخذتها الدولة في هذا الإطار، أبرزها مشروع صوامع القمح، و مشروع توشكى الخير، وهي المشروعات التي تتطلع إلى تحقيق نفس الهدف، وهو الاكتفاء، من جانب السلع الزراعية، وعدم الاعتماد على استيرادها من الخارج.
ولعل الملفت للانتباه أن الخطوات المصرية، لتحقيق الأمن الغذائي ليست وليدة اللحظة، وبالتالي لم تكن "رد فعل" لما يشهده العالم من مستجدات في السنوات الأخيرة، وإنما في حقيقة الأمر كانت استباقية، في إطار عملية "بناء" شاملة، تهدف لتحقيق الاستقرار في قطاعات معينة، بينما تمثل الخطوات اللاحقة استكمالا لما بدأته الدولة، قبل اندلاع الأزمات الدولية الأخيرة، في إطار يبدو منسجما يصب في بوتقة الاستقرار المجتمعي في كافة صوره.
الأمر نفسه ينطبق على قطاع الطاقة، هو ما بدا في الخطوات التي اتخذتها الدولة منذ اليوم الأول من ميلاد "الجمهورية الجديدة"، في استكشاف حقول الغاز الطبيعي، والعمل على تطويرها والاستفادة منها، لتحقيق ما يسمى بـ"أمن الطاقة"، في الوقت الذي يعاني فيه العالم بأسره من أزمة حقيقية، خاصة مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، ما تلاها من تداعيات كبيرة على هذا القطاع الحيوي الهام في الأشهر الماضية، مما دفع العديد من الدول نحو البحث عن بدائل، تزامنا مع نجاح مصري في تطوير البنية التحتية في هذا المجال، أبرزها إنشاء وحدات لتسييل الغاز، وتطوير الموانئ المصرية في البحر المتوسط والأحمر، بحسي يمكن استقبال الغاز من دولا أخرى وتسييله، ثم تصديره أو استخدامه محليا، مما ساهم في تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة، ربما يساهم في المستقبل لتحويل مصر إلى أحد أكبر مصدري الغاز في العالم مع التطورات الدولية الراهنة.
الخطوات الاستباقية المصرية، ربما تعكس رؤية جيدة وقدرة فريدة في التنبؤ بالأحداث على الساحة العالمية، وتداعياتها الكبيرة، بينما تمثل في الوقت نفسه عملية "بناء" كاملة للأمن، والذي بات يحمل في مفهومه أبعادا متنوعة، بعيدا عن الإطار التقليدي الذى وضعته في الأنظمة السابقة، إنما بات يرتبط بصورة مباشرة بالعملية التنموية، والقدرة على تحقيق الاكتفاء، وهي الحالة التي أثبتت الأحداث أنها ليست عملية صماء ثابتة، وإنما في حقيقة الأمر تمثل خطوات متواترة، تتطور من مرحلة إلى أخرى، لتؤدي في نهاية المطاف إلى حالة من الاستقرار "الصلب" الغير قابل للاختراق سواء بفعل الأزمات أو بسبب التغيرات الدولية والإقليمية المفاجئة.