لكل فرد من نشأته نصيب، وأعتقد أن نشأتي في بيت والدي الدكتور مصطفى لبيب أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، جعلتني محبة لقراءة التاريخ المصري خاصة وأنني ممن يؤمنون بأن التاريخ لا يكذب بل يصنع الأحداث، من يفهم سيرورته يستطع أن يعيش الحاضر ويستعد للمستقبل.
ويرى بعض المؤرخين أن التاريخ يعيد نفسه متمسكين بنظرية الدورات التاريخية، وعبر الأحداث التاريخية المصرية التي عاصرتُها وتابعتُها تأكد يقيني بذلك، وجاءت ثورة 30 يونيو المجيدة خير دليل وبرهان على أن التاريخ المصري سلسلة ممتدة ومتفاعلة من الأحداث.
والحقيقة أن مصر القديمة مليئة بالأسرار المثيرة للتأمل، وقد جذبني رمز الأقواس التسعة الذي شاهدته محفورًا على قاعدة تمثال الملك نختنبو الثاني وهو الملك الثالث والأخير في الأسرة المصرية الثلاثين وأخر حاكم لمصر القديمة من السكان الأصليين الذي ازدهرت مصر في عهده. والأقواس التسعة هي رمز حفره المصريون القدماء أسفل أرجل تماثيل الملوك لوصف سيطرتهم على أعداء مصر في الداخل والخارج، محددين ملاحم الحروب ضدهم وهزيمتهم على جدران المعابد والمقابر الفرعونية.
ورغم أن عدد الأقواس ليس حصريًّا وإنما للدلالة على تعدد الأعداء وتربصهم بمصر، ووجود قادة وطنيين يتصدون بشجاعة لمواجهتهم لحماية الوطن، فقد أنعم الله على مصر بشعب ذي إرادة قادر على فرز حكامه والوقوف خلف المخلصين والوطنيين منهم، ولذا كانت كلمة المصريين مدوية بإقصاء الجماعة الإرهابية والوقوف خلف الرئيس عبد الفتاح السيسي لحماية مصر وهويتها من أعداء الداخل وحلفائهم بالخارج.
والواقع أن مصر منذ يناير 2011، قد مرت بمراحل صعبة وتحديات كبرى، ولكن كعادتها وبفضل الله ثم أبنائها تغلبت عليها. وقد كان عام حكم الجماعة عام أزمات وتحد واضح لهوية مصر، ولكن المصريين تصدوا للمخطط، ونجحوا في الخلاص منهم، وقد كنت كغيري من المصريين رافضة للوضع قلقة على مستقبل وطني، ولذا رفضت دون تردد منصب الوزير الذي عرض علي حين ذاك ولم أندم على ذلك.
ومع ثورة 30 يونيو عاد الأمل للمصريين وأضاءت مصابيحه الشوارع والمزارع والمصانع، والتف الشعب الواعي حول القائد الوطني الذي لا يفرق بين المواطنين، فالمسلم أخو المسيحي، الكل سواء، تُقلُّهم أرضٌ واحدة، وتظلهم سماء واحدة، وعلى الكل أن يعمل ليعلي شأن الوطن، ويرفع رايته خفاقة بين الأمم، فكان ذلك اليوم صفحة جديدة مضيئة في سجل التاريخ لبداية بناء شامخ على أسس علمية، تصُبُّ القواعدَ سواعدُ الشباب، وترفع الأعمدة العقولُ والأفئدة.
وتمر السنون لتبدأ مصر "حياة كريمة" تبسط جناحيها على مدن مصر وصعيدها وريفها؛ لتسعد الأبناء، وتنشر الخير في جميع الأرجاء.
إن مصر التي نعرفها ونفخر بها عادت، بمؤسسات منسجمة وشعب صبور مُتَحَدٍّ لكل الأزمات، وأتذكر هنا عندما اتصل بي رئيس الوزراء الأسبق المهندس "إبراهيم محلب"، بعد تشكيل الحكومة، وطلب مني أن أتولى إدارة مكتبه، فوجد مني ترددًا فقال لي: إنه يحمل رسالة من الرئيس عبد الفتاح السيسي مفادها أن الوطن إذا نادى على أبنائه فلابد أن يستجيبوا، وتوليت هذا المنصب في مايو 2014 ومررت بعدة مواقع حكومية قيادية ووزارية حتى اليوم، شاهدت خلالها دولة جديدة تعمل مؤسساتها معًا لهدف واحد هو مصلحة الوطن والمواطن لتصبح مصر "أد الدنيا".
هذا هو التاريخ؛ لذا يخطئ من يظن أن مصر يمكن قهرها أو السيطرة عليها وتحويل مسارها التاريخي الممتد؛ فمصر كما وصفها الجغرافي العظيم "جمال حمدان"، في كتابه الموسوعي "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" هي: "أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة. وستظل مصر قادرة على أعدائها مهما تغيرت الظروف وتبدلت الوجوه.
وصدق الشاعر حين قال:
مِصرُ السماحةُ والحَرامُ على العِدا
يئِستْ ملوكُ الشرِّ من إذلالِها
أرضٌ وَلودٌ والأُسودُ حُماتُها
مَن يستطيعُ النَّيْلَ مِنْ أشبالِها؟