أجدنى بداية مضطرا للاعتذار لأمير الشعراء أحمد شوقى عن اقتباس كلماته الجامعة المانعة «إذا أصيب القوم فى أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا»، فى سياق مقالى عن المرض العضال، والذى يتلخص فى استسهال الكلام، واستسهال النصح والإرشاد، واستسهال الخوض فى الأعراض، واستسهال الفتاوى العلمية والدينية والمجتمعية، وتصدر فاقدى العلم، بل فاقدى الأهلية مشاهد النصح والإرشاد، وتلك مصيبة كبيرة، تبتلى بها المجتمعات، وإن لم تتضافر الجهود لمواجهة هذه الظواهر السلبية، فقل على هذه المجموعة من البشر السلام.
فى وقتها تماما، جاءت مبادرة «انفراد»، التى تدق ناقوس الخطر، وتحارب الشائعات ونشرها، وتطلب وقف نشر كل ما يخالف كل قيم المجتمع، حيث تطالعنا عناوين الأخبار اليومية بأحداث متلاحقة، عبارة عن مشاحنات، ومشاكل متشعبة ومستمرة، وحوادث، ودم، وجرائم، جميعها يقول إننا نعيش أزمة حقيقية، علينا البحث عن الأسباب والتداعيات والمعالجة، غير أن القاسم المشترك، والرابط الجدير بالبناء عليه، هو أن معظم هذه المشكلات نتيجة لسرطان استشرى فى المجتمع، يمكننا تلخيصه فى كلمتين «استسهال الكلام».
نعرف كلنا معنى مشاركة، ونعى جيدا كمبدأ عام أن كل شىء نشاركه، فنحن شركاء فى المسؤولية فيه، لكن فى عصر التكنولوجيا بات الأمر سهلا، وبدا تنفيذ الكلمة أسهل وأسرع من نطقها، غير أن ذلك يسرع بنا إلى الخطر الداهم، بينما لا ندرى، ولا نملك تقييما دقيقا لما تقترف يدانا بشكل لحظى.
الآن، وبعدما أصبح كل شخص قادرا على التحدث فى الناس، أى وقت وفى كل شىء، ولم يعد حديثه مقتصرًا على الدوائر القريبة منه فقط، بل يستطيع أجهل أهل الأرض أن يكتب، ويقرأ له الملايين، بات من الضرورى، دق ناقوس الخطر، ورفع درجات الوعى، ومواجهة هذا الخطر الداهم، وتضافر الجهود لوضع الأمور فى نصابها، والأشخاص فى أحجامها، والأحداث فى إطارها، وليعلم كل منا أن الدين أمرنا بسؤال أهل الذكر حال جهلنا بالشىء، لكن من هم أهل الذكر الذى تحدث عنهم القرآن الكريم؟
أهل الذكر هنا هم أهل التخصص، أى لا نسأل عالم الفيزياء فى الدين، ولا الشيخ فى الفيزياء، بل حتى داخل التخصص الواحد يكون الناس درجات، وليس أدل على ذلك من قصر الفتوى قديمًا على شخص الإمام مالك، رغم وجود آلاف العلماء، حيث كان التوجيه صريحا ومباشرا «لا يفتى ومالك فى المدينة»، فلم يكن هذا بسبب ندرة أهل العلم بالعكس، بل كان الأمر متعلق بمدى علم الإمام مالك وتمكنه من الفقه والدين، ونور البصيرة، ورجاحة العقل، كلها أشياء رآها الناس بالدليل القاطع فى فتاوى الإمام، وحل مشكلات الدين والدنيا معهم، فكان له حق الفتوى وحده بين مجتمع يكتظ بأهل الدين، فكيف وصلنا نحن فى هذه الأيام إلى استسهال الفتوى - كل الفتوى - بهذا الشكل؟
على حافة الخطر نعيش الآن، بين مجموعة بشرية، معظمها أخذ القشور من كل شىء.. لم تتعلم شيئًا حتى نهايته، ولم تتعمق فى شىء، ولم تأخذ من كل زوايا الحياة غير القشور، بل القشور المختلطة بكثير من المغالطات والتضليل، وبذات السرعة وبثقة كارثية بدأت هذه المجموعة توزيع هذا العلم السطحى، وإمداد الناس به، وترويج هذه البضاعة فى مشاهد تكاد تذهب بالعقل، حينما تحاول تدبرها، وتفسيرها.
الدين قرأناه وفسرناه بشكل سطحى وسريع، وعلى السوشيال ميديا الآن أصبحنا «بلد المية مليون مفتى»، العلوم كلها بدأ تعليمها من امتلكوا من الجهل بالشىء أضعاف ما امتلكوا به علما، المشكلات النفسية والأسرية والمجتمعية بشكل عام، ينصح فيها من يحتاجون النصح، ويتصدر صفوف حل المشاكل الأسرية، من فشلوا فى تكوين أسرة واحدة دون مشاكل، حتى وصلنا إلى الشيخ الذى كتب على فيديو له دعاء النجاح فى الامتحان بدون ساعة واحدة مذاكرة، فأى عبث نعيشه؟.. ووسط أى مجموعة بشرية نتواجد؟.. وكيف السبيل للخلاص من هذه الظواهر الكارثية التى تحيط بنا؟
فاقد الشىء لا يعطيه.. والآن يوهمنا كل أهل الفقد بتواجد الأشياء عندهم، ويكتب من لا يعلم فيما لا يعلم، ثم يشاركه من لا يعلم ما كتب، وبشكل تلقائى ينتشر السم بسرعة فى خلايا عقول لم تتحصن بأى علم سابق، ولم تتأثر إلا بهؤلاء الجهلة، ولم تتمتع بأدنى درجات الوعى، وعلى ذلك يمكنك القياس فى كل زوايا الحياة، فماذا بعد هذا الخطر من خطر؟.. يقينى أن ذلك مبلغ الخطر، وأبعد درجاته، ووجبت المواجهة السريعة.