الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي، في المجتمعات، في حقيقته، ليس بالأمر الهين، على الإطلاق، وهو الأمر الذي تجلى في أبهى صوره، في العديد من المراحل، سواء في منطقة الشرق الأوسط، والتي لعبت فيه "السوشيال ميديا"، دورا كبيرا إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وما تبعها من فوضى كبيرة، وضعت العديد من دول المنطقة، على حافة الهاوية، بل وأسقطت بعضها في مستنقع الحروب الأهلية، لسنوات أدت إلى تدميرها في نهاية المطاف، بينما انتقلت تلك المواقع في مرحلة أخرى، نحو الغرب، عبر تأجيج الاحتجاجات في دول أوروبا الغربية، عبر حركة "السترات الصفراء"، والتي شهدت نشاطا كبيرا في العاصمة الفرنسية باريس، وعدد من العواصم الأوروبية الأخرى، احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
حالة الانتقال المكاني، الذي شهدته "السوشيال ميديا"، بين الشرق والغرب، لم تختلف معها الاستراتيجية القائمة على فكرة استغلال أوضاع سياسية واقتصادية معينة، لتأجيج الغضب الشعبي، وتأليب الرأي العام المجتمعي على "النخبة" الحاكمة، عبر تلك المواقع، والتي كانت "أداة"، ربما تحمل الكثير من الإيجابيات، وإنما تخضع للكيفية التي يمكن استغلالها بها، وتوجيهها إليها، عبر انتشار عدوى "الترند"، والذي أصبح بمثابة "سلاحا" يمكنه استقطاب ليس فقط المجتمع، وإنما أيضا الصحف والقنوات التلفزيونية، بحثا عن مزيد من المشاهدات، وبالتالي تتحول القضايا المستهدف إثارتها بمثابة المحور الذي يدور حوله كل شيء في المجتمع، بدءً من مواقع التواصل، مرورا بالإعلام وحتى الشارع.
إلا أن ثمة تغيير يبدو ملحوظا في طبيعة القضايا المستهدفة، خلال السنوات الماضية، يتمثل في إثارة موضوعات، أو بالأحرى "إعادة تدوير" مشاهد قديمة وموجودة منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، ربما تبتعد عن السياسة، على الأقل نظريا، إلا أنها تحمل نفس الأهداف القديمة من خلال محاولات إرهاب المجتمع، منها على سبيل المثال، التركيز على تعظيم الجرائم التي قد يشهدها المجتمع هنا أو هناك، وتحويلها إلى حديث الشارع، بصورة يومية، بإطلاق المزيد من الأكاذيب والشائعات، والتي تهدف في الأساس إلى تجريد المواطنين من الشعور بالأمن والأمان، وهو ما يحمل في طياته أهداف أخرى، أهمها هدم الثقة في مؤسسات الدولة، والعودة بالمجتمع كله إلى الوراء، في إطار دائرة مفرغة من الخوف، وهي الحالة التي شهدتها دول المنطقة، خلال سنوات ما بعد "الربيع العربي"، خاصة مع صعود الجماعات المتطرفة، وإجادتها في استخدام "السوشيال ميديا"، ليس فقط في الانتشار عبر تجنيد عناصر جديدة لميليشياتهم، وإنما أيضا في نشر الخوف والهلع بين المواطنين.
محاولات نشر الفوضى عبر "السوشيال ميديا"، لا تقتصر على تعظيم الجرائم، وإنما أيضا امتدت إلى إثارة القضايا الخلافية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بأسس المجتمع وتقاليده دينيا وأخلاقيا، على غرار قضايا المثلية الجنسية والإجهاض، أو الفتاوى الدينية الشاذة، والتي لا تقتصر في معظم الأحيان على دين بعينه، لتتحول تلك القضايا إلى جدل مجتمعي من شأنه إثارة المزيد من الانقسام داخل المجتمع، سواء في إطار أخلاقي أو ديني أو حتى طائفي لإثارة الفتن، وهو ما يعكس محاولة صريحة لإثارة المجتمع على ذاته.
ولعل الفوضى التي وصلت إليها العديد من الدول حول العالم، وبالأخص في الشرق الأوسط، في السنوات الماضية، كانت محلا للجدل لسنوات طويلة، بين فريق من المحللين والنشطاء، اعتبر مواقع "السوشيال ميديا" كـ"أدوات داعمة للديمقراطية"، من جانب، في حين رآها فريق آخر كـ"سلاح" لتقسيم المجتمعات من جانب أخر، إلا أن الجدال الشائك ربما حسمته الولايات المتحدة نفسها، عندما شهدت اقتحام الكونجرس، لأول مرة في التاريخ، بعد سنوات من صراع "التريند"، عبر الترويج لقضايا خلافية ساهمت في حالة من الاستقطاب غير المسبوق داخل الولايات المتحدة، من خلال استهداف أداء الرئيس السابق دونالد ترامب إبان وجوده في البيت الأبيض، إلى الحد الذي دفع بعض المنصات لحظره تارة، ثم إثارة القضايا المثيرة للانقسام، تارة أخرى، ليكون المشهد الفوضوي في نهاية حقبة ترامب، دليلا دامغا على ما آلت إليه الأمور في أهم معاقل الحرية والديمقراطية في العالم.
وهنا تصبح الحاجة ملحة إلى مزيد من الوعي والإدراك حول الآلية التي يتبناها "رواد الفوضى" عبر أداة "التريند"، بهدف تحويل المجتمعات نحو الفوضى، وإن كان ذلك عبر أساليب تبدو جديدة ومختلفة نوعا ما عن الاستراتيجية القديمة، التي قامت على تأليب مواطني الدول على السلطات الحاكمة، لتتحول بعد ذلك إلى تأليب المجتمعات على بعضها.