الانكماش الاقتصادي أكثر ما يقلق العالم في الوقت الراهن، الكل يتنظر ويترقب خطورة ما قد تسفر عنه الأشهر المقبلة، فالاقتصاد الدولي دخل غرفة الرعاية المركزة منذ ما يقرب من 6 أشهر، ولا يعرف أحد موعد خروجه أو اكتمال عملية الإنعاش دون مضاعفات، والانكماش مرحلة أبعد وأعقد من الركود، وإن كانت قليلة الحدوث أو ربما نادرة أحياناً، إلا أن الخبراء يرجحون الوصول إليها مع الأزمة الحالية.
الانكماش في معناه البسيط عكس التضخم تماماً، وهو انخفاض كبير في مستوى الأسعار للمستهلك، بعد الطفرات التضخمية التي وصلت إليها، لكن مع هذا الانخفاض نجد مستويات عالية من البطالة، وانخفاض معدلات الاستثمار والنمو الاقتصادي، الذي قد يصبح بالسالب، كذلك انخفاض الإنتاج، مع انخفاض دخل الأسرة وتحجيم قوتها الشرائية، وانخفاض كبير في نسبة السيولة لدى الأفراد والمؤسسات، لتصبح الأخيرة غير قادرة على ضخ أموال جديدة لإنعاش السوق، واستعادة نشاطها مرة أخرى.
للأسف البعض يتصور أن الوقت الراهن مناخ مناسب للاستثمار والادخار، وهذا كلام يرفضه العقل والمنطق ولم توص به أي مؤسسة اقتصادية محترفة، فقط ما نحتاج إليه الحماية من الركود ثم الانكماش القادم، وهذا يكون أولاً بتحجيم التضخم عن طريق تقليل الاستهلاك، ثم التوقف عن الاستثمار العشوائي في أدوات ستخلق المزيد من الركود والانكماش في الفترة المقبلة مثل الذهب والعقارات.
في الوقت الذي يحاول العالم كله اكتشاف قاع الأزمة الاقتصادية التي تصل تأثيراتها المباشرة لاقتصاديات الدول النامية أولاً، يفكر البعض في كيفية تحقيق مكاسب أو أموال وأرباح من خلف الأزمة، التي في حقيقة الأمر لا تحمل في رحمها أي مكاسب، فما زلت أتعجب كيف يخرج خبراء اقتصاد لدعوة المواطنين لاستثمار أموالهم في الذهب وشراء جنيهات ذهبية بكل ما لديهم، هل هذا منطق؟ هل هذا طرح له علاقة بالاقتصاد أو يستهدف المصلحة العامة أو يراعى الفترة المقبلة؟ بالطبع لا وله نتائج كارثية على الفرد والمجتمع.
بمثال بسيط نحاول الفهم، لو أن الناس حولت مدخراتها إلى جنيهات ذهبية، وقرر كل مواطن شراء جنيه واحد من الذهب، وعلى فرض أن من ينفذ هذه العملية 50 مليون شخص من إجمالي 103 ملايين مواطن عدد سكان مصر، ومتوسط سعر جنيه الذهب 8 آلاف جنيه، بواقع 8 جرامات قريباً، سيكون الرقم الإجمالي الذى نحتاجه 400 طن تقريباً من الذهب، وهو ما يعادل حوالى 24 مليار دولار، في حين أن إجمالي احتياطي مصر من الذهب كاملاً 125 طن، بإجمالي حوالى 7.5 مليار دولار، ليصبح ما يطلبه الناس أكبر 3 مرات من الاحتياطي الذهبي، وهذا بدوره سيزيد من ندرة الذهب ويرفع أسعاره محلياً، ويضغط على العملة الأجنبية باعتبار الذهب مقوم بالدولار، وسوف يستنزف رصيد العملات الصعبة، ويرفع أسعارها بصورة غير مباشرة ويخلق سوق سوداء لها غير قابلة للسيطرة عليها.
مجلس الذهب العالمي أعلن قبل عدة أشهر في تقرير منشور، ارتفاع الطلب على المشغولات الذهبية في مصر بنسبة 42% في العام 2021، ليبلغ 27.9 طن مقارنة بـ 19.7 طن في 2020، ما بين مشغولات وسبائك وجنيهات ذهبية، بما يؤكد أن الاستهلاك لا يزيد بأي حال عن 30 طن سنوياً، فماذا لو وصل إلى 400 طن مع السيناريو المطروح في السطور السابقة.
السيناريو الخيالي الذي قدمته حول وضع مدخرات الأفراد في الذهب، يسرع من وتيرة الركود والانكماش بصورة غير مسبوقة، ويقلص فرص النمو والاستثمار بطريقة تبتلع السيولة وتقلل من الإنفاق على المشروعات الجديدة، وتحبس مئات المليارات لفترة دون عائد حقيقي سواء على أصحابها أو على المجتمع، لذلك من لديه مدخرات عليه أن يضعها في البنوك من خلال شهادات استثمار قصيرة أو متوسطة العائد، أو يوظفها في مشروع صغير أو متوسط، يخلق فرص عمل، ويدر عائد، ويسد الحاجة من المنتج الأجنبي ويصبح بديل محلي معقول الجودة، ويدفع الاقتصاد نحو النمو مرة أخرى.