أحيانًا أتساءل: كيف يردد شباب في عشرينياتهم أغنية عمرها 50 عامًا؟ متى سمعوها وكيف فهموها؟ .. يتغنون ويتمايلون مع لحنها، كما لو كانوا يتحررون من الجاذبية الأرضية، أو بالأحرى يفلتون من تكبلهم بواقعهم الثقيل، ربما أستغرب حماسهم لغناء يخالف إيقاع حياتهم الصاخب والسريع، لكن أسباب استعجابي تزول، عندما يدخل صوت كارم محمود مستقيمًا، متهللًا، بمقام "راست" أو "رصد" شديد الطربية، ملك المقامات في الموسيقى الشرقية، الجامع للفرح والشوق والحزن في قالب عذب، رائق: " عنابي .. يا عنابي يا خدود الحليوة/ أحبابي .. يا أحبابي يا رموش الحليوة"، إنه ينادي حبيبته على طريقته ويتغزل في خدودها العنابي ، ثم ينتقل بسرعة إلى سامعيه ويورطهم في حكاية غرامه، بسؤال العتاب الرقيق:" يرضيكو الحليوة يسيبني للنار اللي بتدوبني"، كما لو كان يُشهدهم على ما يفعله به حبيبه، مع استبطان ملاحة وجمال حالته في نبرة رائقة، مترفعة عن الإقرار بالشكوى وعذابات المغرمين، فيسأل مرة أخرى بمزاج التائه الذي يتدلل بسؤاله:"إيه قصده الحليوة .. إيه قصده الحليوة"، لعل السؤال يفيد ويتيح لسامعيه التدخل واستعطاف الحبيب، بدلًا من الفرجة على المشهد.
الغناء في "عناب استهلال ي" التي كتبها كامل الإسناوي ولحنها حلمي أمين في العام 1972، بهذا الاستبشار الطربي، يؤسس لمزاج الطمأنينة والأنس في المقاطع التالية، فينتقل من منطقة الغزل ووصف جناين ورد الحليوة ونسايم عبيره، وعيون " بتصحي قلوب نعسانة"، إلى اللجوء للمقربين ليوكل له التوسط وتوصية الحليوة:" وتقول له انه في أحباب فاتحين للمحبة الباب"، ثمة حب لا مرد له، يبوح به للأخرين بينما يخشى من حبيبه الحليوة،:"ياعيني عليك يا قلبي يا كاتم هواك ومخبي"، ثم " لا تبوح للحليوة بحبي ولا مال الحليوة"، إلى أن يذهب إلى منطقة البعاد والحيرة التي تزيد الهوى اشتعالًا:" ولإمتى البعاد متقدر انا بسأل عليه وبدور/ والفكر بهواه متحير ولا جاش الحليوة"، ويختتم الأغنية بسؤال البداية الذي كرره بالفعل في نهاية كل مقطع، كما لو كان يؤكد على رجائه ومبتغاه.
هنا صوت كارم محمود قوي، واعي بالحالة الموزعة بين الحب والدلال، غير أنه أيضًا مسكون بألفة شديدة، تجعل سامعه ينسجم معه ويشاركه أغنيته الخفيفة هذه بمقاييس عصره، مقارنة برصيده الحافل بألوان طربية أخرى كرسته عازفًا وملحنًا ومطربًا من النوع الثقيل، ومن هذا المنطلق تميز في القصيدة والطقطوقة والموال الشعبي والأغنية الوطنية، إضافة إلى حضوره بطلًا في الأوبريتات والأفلام الاستعراضية، مقدمًا أغنيات رسخته واحدًا من أبرز مغنيي زمنه، ومجددًا في عالم النغم دون أن يتخلى عن شرقيته وخصوصيته، وفي تصوري هذا جزء من استمرارية أغنيته حتى زمننا الراهن، فـ"عنابي" ليست وحدها يستعيدها الشباب في الرحلات والحفلات، بل مطربنا الذي احتفينا هذا العام بمئويته، يظل مزاج السلطنة في"أمانة عليك يا ليل طول" والدلال في"والنبي ياجميل" الاثنان من ألحانه، هذا غير الانشراح والبشاشة في"على شط بحر الهوى رسيت مراكبنا" لحن محمود الشريف وغيرها.
لكن السؤال الذي شغلني بشكل كبير هو: هل نقاء صوته أم تفرده أم مثابرته أم ماذا بالضبط، الذي جعل الرحبانية يجمعون بين كارم محمود وفيروز؟ هذا التعاون النادر الذي لا يعرفه كثيرون، أداء كارم محمود الطربي، الشرقي، المصري، وأداء فيروز الممزوج بكوكتيل التجديد الموزع بين الشرقي والجاز والتراتيل، ما الذي شكله هذا التعاون في تجربة الاثنين، وكيف جاءت الفكرة للأخوين رحباني، وإلى أي مدى خدمت على مشروعهما الموسيقي؟
ربما تبدو الأسئلة عبثية إذا توقفنا عندها دون الاستماع إلى هذه التجربة الاستثنائية في مغناة "زرياب" بمنتصف خمسينيات القرن الماضي، زرياب هو كارم محمود الذي تنطرب به لمياء، تجسدها فيروز التي تسأله:
لمياء : آه يا زرياب كم أطربتنا آه لو تبقى طويلا عندنا
امتلك بيتا جميلا ههنا وأقم للدهر في بلدتنا
زرياب : أنا لا أبقى طويلا في مكان كل يوم لي في أرض أغاني
أنا كالطائر يشدو ثم يمضي ليغني من جنان لجنان
إذن، كان لابد أن يخوض كارم محمود هذه التجربة التي تحقق له جزء من خياله في التنوع، وتحقق للرحبانية مغامرة إبداعية جديدة في مسيرتهم الزاخرة، إضافة كرروها في "حكايات الربيع" عام 1957، لتتوهج المنافسة الغنائية بين صوتين شديدي السخاء في الإبداع، كما استطاع كارم محمود أن يُردف حصة أخرى لمشواره الفني، الذي توجه كذلك بالتمثيل، نحو ثلاث مسرحيات و26 فيلمًا أسهمت في ازدياد وتطور المدرسة التعبيرية في السينما المصرية، والتي كانت في أوجها وتألقها حينذاك، من خلال نجوم الطرب والموسيقى، سبقه محمد عبد الوهاب، وعاصره فريد الأطرش ومحمد فوزي، ولحق به عبد الحليم حافظ، هذه المدرسة التي عمقت تجربة التمثيل السينمائي، وهذه قصة نحكيها في مقال آخر، لكن بالوقوف عند كارم محمود (1922 – 1995)، فنحن أمام مطرب وموسيقار في عقله وتر وفي قلبه وتر، الألحان تلامس ذاته والأغاني تحكي عنه وعنا ببساطة، وربما واحد من أسرار استمرارها حتى الآن، حاجتنا إلى الحب والألفة والسلام.