بسنت حميدة.. الغزالة لا تركض وحدها

يروقنى هذا الحماس والتواطؤ بين الحرية والجمال، تماس خفيف ورشيق بين جسد الفتاة والأرض، يتحول بمهارة إلى إقدام واندفاع.. معدل التسارع وتحول الأداء في الثانية الواحدة، يشير إلى أنه ليست السرعة إذن المعيار الوحيد الذي يحكم السباق، إنما التكتيك والمراوغة والحركة الحرة التي وراءها فيض من الجهاد والتدريب، أشياء خاطفة توقظ فينا الحياة بجمالها البسيط. في أي سياق يمكننا وضع الغزالة الراكضة، غير هذا السياق العامر بالفرحة والفخر ؟ كأن العين كانت تتوق لشيء مختلف، يحملنا خارج نطاق واقع ملتبس، فبينما كانت بسنت حميدة تركض في دورة ألعاب البحر المتوسط "وهران 2022" بالجزائر، وتحقق إنجازها التاريخي كأول عداءة مصرية، تفوز بميداليتين ذهبيتين في سباق 100 متر وسباق 200 متر عدو، إذ كان هناك سباق آخر، سباق سريالي يشعله البعض ضد المرأة والأنثى عمومًا، بل يصل إلى التجريح مثلما يحدث مع نيرة أشرف، كما لو لم يكفهم ذبحها بهذه الطريقة الوحشية. لا يمكن المرء الطبيعي إلا أن ينهض ويتهيأ بالأمل، عندما يرى صورة بسنت حميدة ترفع العلم المصري، ويدرك أن المرأة ليست وترًا مكسورًا ولا ظهرًا محنيًا، أو مرمى لألسنة اللهب ونقطة مستهدفة للسخرية والتنمر ، وأن بنات مصر هن بطلات، كل واحدة منهن "تقلها دهب"، من بسنت إلى نعمة سعيد (ذهبية رفع الأثقال في الخطف وزن 71 كجم) ومريم الهضيبي (ذهبية تنس الطاولة) وغيرهن غامرن وكسرن المألوف والتقليدي. الموضوع هنا ليس فقط رغبة دفينة في إثبات شيء ما، ولا هو دعوة لرفع الظلم التاريخي عن المرأة ومحاولات تهميشها، خصوصًا أنها لم تزل في حربها مع التيارات السلفية، إنما هو ببساطة دعوة للفرح بهن، ودعمهن وتأكيد دورهن وقدراتهن التنافسية، ومن هذه الزاوية يمكن للمرء ألا يضيع في فهم الرسالة التي حاولت السينما توجيهها إلينا نساءً ورجالًا. صحيح أن صورة المرأة في أفلام عدة، أشبه بلغم ينفجر في وجه من يقترب منه أو يحاول أن يحفر حوله لاكتشافه، خصوصًا في الأدوار النمطية كالخائنة أو الراقصة اللعوب، أو حتى الفتاة الريفية الساذجة والخادمة والطالبة والموظفة، وغير ذلك من النماذج التي صاغت تنويعات للمرأة كمجرد هامش، ظل غير معروف لأي شيء، ظل حائط أو ظل شجرة أو ظل رواية أو ظل للرجل تتبع خطاه، لكن هناك أفلام أخرى تعاملت مع المرأة كنموذج إنساني، له حضوره الفعال في المجتمع. حتى زينب في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم، أخرجه محمد كريم في العام 1952، وجسدتها راقية ابراهيم، بكل ما تمثله من إستكانة وخضوع وقهر يثير التعاطف حسب المفهوم الرومانسي، تمردت على مجتمعها الظالم وزوجها الغليظ، فغادرت منزل عائلة زوجها المجحفة، اختارت حريتها وأعلنت بنت الفطرة السمحة والقبول الطوعي، في نهاية الفيلم عبارتها الشهيرة:"اللي ما لوش أهل الحكومة أهله". كما تمردت نعيمة (سعاد حسني)، امرأة أخرى كانت مغلوبة على أمرها في فيلم "حسن ونعيمة" إخراج بركات (1959)، واختارت حياتها الجديدة بملء إرادتها، حدث هذا في الخمسينيات، الحقبة التي تعكس تفاعلًا متناميًا بين السينما والمرأة، حيث كان هناك إتجاه يدعم المرأة ويكرس لصورتها المختلفة، في إطار فكرة تحالف قوى الشعب العامل التي فجرتها ثورة يوليو 1952، ظهر هذا التنامي في أبهي صوره عبر الستينيات التي تعاملت مع المرأة بشكل أبعد وأعمق. فمن ينسى أمينة (لبنى عبد العزيز) في "أنا حرة" (1959) إخراج: صلاح أبو سيف، الفتاة الجامحة التي تحلم باستكمال دراستها والخروج إلى أفق أكثر حرية، ومن يتجاوز ليلى (فاتن حمامة) في "الباب المفتوح" 1963 إخراج هنري بركات، ابنة الأسرة المتوسطة بكل تقاليدها وقيودها، التي تحاول أن تتحرر من تصورات متعسفة، تعاملها كامرأة على أنها مواطنًا من الدرجة الثانية، فتجد حريتها في الالتحام بالناس ومشاركتهم لحظة حاسمة تمر بها البلاد وتتغير فيها ظروف المجتمع، إنها اللحظة التي شكلت بابها المفتوح، المشرع على المجتمع الجديد. ومن يمكن أن يغفل عن إلهام وسلوى (نادية لطفي وسعاد حسني) في "للرجال فقط" (1964) إخراج محمود ذو الفقار، المهندستان في الكيمياء، اللتان تتنكران في صورة رجلين وتسافران بروح متوثبة إلى العمل في الصحراء، من أجل استكشاف آبار بترول جديدة، وكمحاولة لإثبات أن المرأة تستطيع العمل في مهن مقصورة على الرجال فقط. الأمثلة كثيرة قدمت نماذج مستنيرة للمرأة، في تصوري أن بسنت حميدة ورفيقاتها هن بنات أمينة وليلى وإلهام وسلوى، ورثن عنهن الإرادة الحرة والرغبة في التفاعل الإيجابي مع مجتمعهن، وما يحققونه من انتصارات رياضية، هو نضال من نوع آخر، يشكل جزءً بارزًا وحضاريًا للبلد، يتسع هذا الجزء بدعم الرجال الذين يدركون فكرة الشراكة الحقيقية في الحياة، ومثلما كانت الأفلام خلفها رجال تأليفًا وإخراجًا وإنتاجًا وتمثيلًا، فإن بطلات مصر ورائهن مدربون وآباء وأزواج يزيدن الصورة من بهاء الصورة، ومنهم محمد عباس مدرب وزوج بسنت حميدة. أتذكر الآن، حين سافرت ذات مرة إلى اسطنبول، برفقة الفتيات المتفوقات، من العشرة الأوائل على مستوى جامعات مصر في اللغات الشرقية، بالمناسبة كانوا تسع فتيات وشاب واحد، كنا نمر أمام القنصلية المصرية ونغني النشيد الوطني المصري بصوت عال، وكان محرك المركب التي تقلنا في جولة البسفور، يصدر ضجيجًا قويًا حين سألني مرشدًا سياحيًا، يرافق مجموعة من السائحين الأوروبيين: من أي البلاد أنتم؟ لما أجبته: مصر، أغمض عينيه كأنه يُنشط عواطفه قبل ذاكرته، ثم قال بصوت فخيم: أم كلثوم.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;