موجة التضخم العالمية وتبعاتها الإقليمية والمحلية سوف يكون لها تأثيرات ممتدة خلال الفترة المقبلة، تسهم فى تغيير أساليب وطرق البيع والشراء، وحركة التجارة الداخلية، وعمليات البيع بالتجزئة أو الجملة، وهنا أتصور أن المستقبل القريب سوف يكون لتلك الأخيرة، في محاولة من المستهلكين المنهكين للتخلص من سلسلة الوسطاء الطويلة، التي تمر بها السلع والخدمات، والاتجاه المباشر إلى المنتج الرئيسي، الذي بات منافساً قوياً وبإمكانه ممارسة دور تاجر التجزئة.
في الوقت الراهن بدأت الشركات الكبرى تمارس نفس دور تجار التجزئة، اعتماداً على التطور التكنولوجي والتطبيقات المنتشرة على الهواتف الذكية، التي يمكن للمستهلك من خلالها الحصول على السلعة أو الخدمة بتكلفة أقل 20% عن تاجر التجزئة، الذي كان يتعامل معه قبل سنوات، وبحسبة بسيطة سوف تكتشف أن السوبر ماركت الصغير أو "البقال" الموجود على ناصية الشارع، لم تعد تتعامل معه إلا في الحدود الضيقة والمشتريات السريعة، اعتماداً على تجار الجملة، أو الهايبر ماركت أو التطبيقات الذكية للشركات الكبرى.
فى مثال بسيط للتوضيح، تجار التجزئة يبيعون "كرتونة" المياه المعدنية سعة الـ 1.5 لتر، مقابل 50 جنيهاً تقريباً، في حين أن الشركة المنتجة لهذه المياه تبيعها مقابل 40 جنيهاً فقط، دون مصاريف شحن أو خدمة توصيل للمنازل كما يفعل التاجر الصغير، ويمكن من خلال عملية شراء سهلة وبسيطة من تطبيق الشركة على الموبايل أن تطلب الكميات التي تحتاجها، وهذه التجربة تنطبق على عشرات السلع، لذلك يمكن تعميم هذا النموذج والقياس عليه، خاصة الأساسية أو الغذائية التي تتحسس زيادات الأسعار بصورة مباشرة.
لماذا تنافس الشركات المنتجة تجارة التجزئة وتمارس نفس أدوارها؟ الإجابة التي أتصور أنها صحيحة أو مقبولة من وجهة نظري أن المغالاة في أسعار السلع من جانب تجار التجزئة، وغياب الحدود الواضحة للمكسب، جعل هذه الشركات تمارس نفس الدور، وتضع هامش ربح معقول، وتزيد من حجم مبيعاتها، الذي يعتبر الأصل والأساس في نشاطها، لذلك باتت تجارة التجزئة في مأزق كبير، سوف تتضح أبعاده خلال الفترة المقبلة، مع تصاعد موجة التضخم، وارتفاعات الأسعار، وسيبحث الجميع عن منتجات بتكلفة أقل، وجودة معقولة، دون تحميلهم أعباء وسلاسل الوسطاء، وأسعار الخدمات والنفقات التي يتحملها تاجر التجزئة.
أتصور أن السوبر ماركت والأكشاك بمفهومها الحالي يجب أن تضع هوامش ربح مقبولة ومعقولة، حتى تتمكن من الاستمرار في نشاطها، خاصة أن انخفاض وتراجع المبيعات على المدى الطويل أكبر خطر يهددها، لاسيما أن المستهلك يبحث عن أسعار أقل للسلع والخدمات التي يشتريها، لذلك سوف يقودنا الغلاء الناتج عن التضخم لفكرة "المستهلك الرشيد"، الذي يشترى ما يحتاجه فقط بأسعار تنافسية، حتى وإن كانت تقل بضعة جنيهات عن تلك الموجودة لدى التاجر أو البائع الصغير، لذلك لم يعد مقبولاً أن نبيع السلع الأساسية بـ 100 سعر كما يحدث الآن، ويجب أن تكون هناك هوامش ربح معقولة يقبلها الناس، أو ستصبح النتيجة عكسية على قطاع تجارة التجزئة، وجميعنا نتذكر أكشاك المحمول والسنترالات التي كانت تقدم خدمات بيع كروت الشحن والاتصال وبيع اكسسوارات المحمول، وقد انتهت إلى غير رجعة مع وجود فرع للشركات مقدمة الخدمة، بجودة عالية وأسعار معتمدة موحدة، وهذه التجربة ليست بعيدة عن أي قطاع.