لو لم يكن سعيد صالح، ما الذي كان ليخسره الفن؟.. سؤالي ليس عشوائيًا، طائشًا ولا هو هذا السؤال الجدلي الذي يقصد به إثارة النقاش العميق، أو التفسير والتأويل المُستعرِض لمشوار فتى المسرح أو سلطان الكوميديا أو غيرها من ألقاب أخرى عُرف بها "صالح"، كواحد من رموز صناعة الضحكة والإبداع الكوميدي في مصر والعالم العربي، إنما هو بالنسبة لي سؤال عاطفي يستدعي وقفة في هذه اللحظة، حيث يتصادف مرور ذكرى رحيله اليوم، وذكرى ميلاده بالأمس، مصادفة يندر أن تتكرر مع الكثيرين.
هذه الوقفة تتطلب شيئًا ما من إعادة قراءة معنى التمثيل الكوميدي في المسرح والسينما المصرية، خصوصًا وأن الكوميديا منذ سنوات طويلة تعاني من فراغ درامي، وباتت تتأرجح بين نتاج فردي يعتمد على الممثل وحركاته وإفيهاته، دون تقديم متعة حقيقية حتى ولو كانت متعة الضحك من أجل الضحك، ما جعل أغلب الأعمال باهتة، مسرفة في إثارة الضحك السريع، مسطّحة على مستويات عدة: تقنيًا ودراميًا.
بالطبع هذا لا يعني أن حضور الممثل والاعتماد عليه ليس كافيًا، إنما ليس وحده كاف، فلابد من التجديد في المضمون وأسلوبه الخاص في التمثيل، ليضمن استمرار علاقته بالجمهور، وأظن أن هذا الأمر سيكفل له كذلك الأرقام والأرباح وإيرادات الشباك.
هنا بسؤالي العاطفي، المباغت، يصعب علي أن أقدم هذه القراءة في عُجالة مقال صحفي أو حتى سطور نقدية قصيرة ومكثفة، فهذا يقتضي دراسة موسعة نتلمس فيها حضور هذا الفنان، القادم من قلب الطبقة المتوسطة المصرية، يعني من رحم المصريين بكل أطيافهم وتنوعاتهم، لو تأملنا ملامح وجهه حتى في "عز الشباب والشقاوة"، لوجدنا أن مصريته هذه تركت بصمته على عينيه التي تنطق بطيبة متناهية وحب جارف وكذلك حزن صادق، وربما قلق خفي في ركن ما، حزن منسحب من روحه، وقلق يظهر حينًا في عدوانية مدفوعة بتحدي الصعاب الاجتماعية والاقتصادية، وأحيانًا في تعاطف صريح صوب المطحونين في مجتمعه، ودائمًا في خروجه عن النص التقليدي للنجومية.
لاشك أن المؤثرات الاجتماعية شكلت جزءً كبيرًا في شخصيته الفنية، بما أظهره حقيقيًا بسطوع، يلتقطه المشاهد العادي ويراه التلميذ المشاغب، الحلنجي، اللص، الصديق الوفي، المناضل، الجاسوس، الأب الحنون، الإنسان الذي "بهدله" الزمان حتى أصيب بـ"الزهايمر".. أدوار متعددة من بينها ما هو مأخوذ عن روايات أدبية ودراما تراجيدية عويصة، و ما هو كوميدي صارخ، حتى أنه في السينما وحدها شارك منذ بداياته وأدواره الصغيرة في نحو 500 عمل، حتى أنه صرح أكثر من مرة:" كان لي في السينما ثلث إنتاجها".
بصرف النظر عن الرقم ومدى دقته، فهو لا يعني شيئًا في ظل بريق سعيد صالح، واحترافه وجدارته في ابتكار أنماط تجديدية في فن التمثيل عمومًا والكوميديا خصوصًا، إنه ليس ابن مجتمعه وطبقته المتوسطة فقط، بل هو كذلك ابن زمنه وجيله الذي نشأ على نسق الزمن الستيني، وشرع في رحلة صعوده ليكون ضمن نظرائه من نجوم بزغوا في النصف الثاني من السبعينيات، رفيق عادل إمام الكوميديان الذي قفز من أدوار صغيرة، هامشية، ليكون من أبرز ظواهر السينما المصرية، مجتازًا بجسارة هذه المسافة بين الممثل العادي والنجم الوضاح.
سعيد صالح هو شريك عادل إمام وليس تابعه، قائمة أعمالهما المشتركة حافلة بأدوار وأعمال مازالت حية:" سلام يا صاحبي"، "أنا اللي قتلت الحنش"، "الهلفوت"، "المشبوه"، "على باب الوزير"، "رجب فوق صفيح ساخن"، "أحلام الفتى الطائر" و.. غيرهم. إنه الصاحب السند الذي لا تعميه هالة النجومية التي أحاطت بصاحبه، وتثير غضينة لديه، بل يمد يديه إليه مساعدًا، وحين يرى ضرورة لأن يسلك هو طريق آخر يفعل على الفور، وهذه من الأشياء الجميلة واللافتة التي فعلها من قبله فؤاد المهندس، ويفعلها حاليًا كوميديان جديد هو أحمد مكي، إنه هذا الخط الممتد للصانعين، الكبار الذين يتمتعون بجاذبية الإبداع، وبجوهر الخلق الفني، بلغة المسرح "يفرشون" للأخرين، ويمنحوهم فرص الظهور والتألق.
بهذا المعنى تصبح الإجابة عن سؤالي بسيطة وواضحة، لأن سعيد صالح واحد من أعمدة التمثيل، كما أن حضوره الإنساني مرادف لجمالية أدائية ترتكز على إلغاء الحد الفاصل بين الممثل والشخصية، بما امتلكه من قدرة على إيجاد توازن متين بين براعة التمثيل، وبين توغله في تفاصيل الشخصية التي يجسدها، كما أنه في مجال التمثيل الكوميدي امتلك نفسًا خاصًا، انطلق من فكرة الضحك للضحك، وهذه رسالة مهمة لا يمكن أن نبخسها حقها، إلى الضحك المبطن في طياته شيئًا من النقد الاجتماعي، ومن الواقعية الإنسانية في تعاطيها مع أزمات العيش اليومي، مستمدًا من القضايا الساخنة موضوعًا للإبداع والتحريض على النقاش والجدل.
إن بدا ذلك واضحًا في "مدرسة المشاغبين" (1973) للكاتب علي سالم والمخرج جلال الشرقاوي، بما شكلته كمنعطف مهم في الكوميديا المصرية، سواء في موضوعها أو تكريسها لنجومية جيل من الشباب وتحولهم إلى الصف الأول، لكن يصعب أن ننسى "مرسي الزناتي" المنافس الخطير لـ"بهجت الأباصيري"، يعني سعيد صالح مقابل عادل إمام، وإن قدما الاثنان حالة جميلة من الأداء التمثيلي، فهنا أيضًا ينفتح ظهور سعيد صالح، الذي أتقن لعبة المزج بين أداء جسدي، ونبرة صوتية، ولا أحد ينسى عباراته الشهيرة: "مرسي ابن المعلم الزناتي اتهزم يا رجالة"، "فين السؤال؟ أنا احط أيدى على السؤال تلاقينى فريرة"، "مش هو ده المنطق ولّا مش هو يا متعلمين يا بتوع المدارس"، "أنا عارف كل حاجة بس مدكن".
استمر التعاطي مع القضايا الاجتماعية وأزماتها في مسرحيات مثل:"العيال كبرت"، "كعبلون"، قاعدين ليه؟"،"الشحاتين" وغيرها مثل "هاللو شلبي" التي قدمها في بدايات مشواره في العام 1969 من تأليف يوسف أبو عوف وإخراج سعد أردش، في دور مؤلف روايات مسرحية، حالم، رومانسي.. الدور المشرع على الفن والمسرح والكوميديا، مفتاح دخول سعيد صالح للعالم الذي أحبه، وطور حاله لاحقًا كممثل جامح، لا يخشى لائم ولا يعبأ بجمع الأموال، وهو ما صرح به في أكثر من موقع، وما يستدل به على خروجه المتكرر عن النص في أعماله المسرحية، كلاعب يسير على الحبل المشدود، دون أن تمنعه أو ترعبه الجاذبية الأرضية.