في الوقت الذي تتحدث فيه الولايات المتحدة عن "عزلة" روسيا، إثر العملية العسكرية في أوكرانيا، نجد أن ثمة نشاط دبلوماسي مكثف "نوعيا"، سواء على مستوى الرئاسة (الكرملين)، أو فيما يتعلق بوزارة الخارجية، وهو ما يمثل ردا ضمنيا على الفكرة التي يروج لها الغرب، بقيادة واشنطن، في انعكاس صريح لحالة تفاعل دولية بين موسكو ومحيطها الدولي، في إطار مواقف اتسمت بقدر كبير من الحياد من جانب قطاع كبير من دول العالم، ناهيك عن حاجة عدد كبير من الدول المحسوبة على المعسكر الغربي، وفي القلب منها دول أوروبا الغربية، لروسيا في إطار علاقات متشابكة تحمل العديد من الأبعاد، ربما أبرزها الغاز، خاصة مع اقتراب الشتاء، وهو الأمر الذي ترجمته الدبلوماسية الروسية، في إطار تحركات اتسمت بكثافة تتجاوز النطاق الجغرافي الطبيعي أو المعلن عنه.
فلو نظرنا إلى الجولة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية سيرجي لافروف، كنموذج للتحركات الروسية التي ت والتي شملت مصر وعددا من الدول الإفريقية، نجد أنها تحمل قدرا كبيرا من الكثافة الدبلوماسية "النوعية"، عبر التوغل في مناطق، تجاوزت البعد الجغرافي لمحطات المسؤول الروسي، حيث شهدت زيارة إلى جامعة الدول العربية، لتضفي نطاقا عربيا إلى الجولة الإفريقية، في رسالة مفادها أن ثمة قبولا عربيا - إفريقيا، لروسيا، على الأقل في إطار موقف اتسم بالحيادية تجاه الأزمة الأوكرانية الحالية، وهو ما يمثل دحضا صريحا للحديث الغربي المتواتر حول "عزلة" موسكو.
تكثيف ما يمكننا تسميته بـ"المحتوى النوعي" للزيارات الدبلوماسية للمسؤولين الروس، لا يقتصر على تجاوز النطاق الجغرافي، وإنما يمتد إلى اختراق مناطق "المعسكر الغربي"، وهو ما يبدو في زيارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دول أعضاء في حلف الناتو، والذى يمثل العدو الأكبر لموسكو، ناهيك عن وجود اتصال مباشر مع قصور السلطة في أكبر دول المعسكر الغربي، على غرار فرنسا، والتي تحرص على الاحتفاظ بمساحة مع موسكو يمكن من خلالها القيام بدور أكبر على المستوى الدولي، بينما باتت تلوح زيارات أخرى إلى موسكو، لا تحمل طابعا رسميا من قبل "رموز" مهمة للدبلوماسية الغربية، إلا أنهم في الوقت نفسه يحظون بعلاقات طيبة مع بوتين، على غرار المستشار الألماني الأسبق جيرهارد شرودر، والذى زار موسكو مؤخرا، في خطوة ربما تحمل في طياتها محاولة لتحقيق قدر من التوافق، بينما تمثل "كسرا" لفكرة "العزلة" التي طالما يروج لها الغرب.
"عزلة" موسكو ربما لم تنكسر فقط أمام نشاط مسؤوليها الدبلوماسي "المكثف"، أو اختراق مناطق خصومها، أو حتى استقبال رموز سياسية من دول المعسكر الغربي، وإنما تجلى بوضوح أيضا في إطار معركتها الثنائية مع الولايات المتحدة، إلى الحد الذى تحولت فيه تحركات واشنطن إلى مجرد "رد فعل" لنظيرتها الروسية، وهو ما يبدو في إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن جولة إفريقية لأنتونى بلينكن، في الشهر المقبل، في انعكاس لمحاولة أمريكية لمجاراة موسكو، بالإضافة إلى كونها ترجمة لنجاح جولة لافروف في القارة السمراء، وقدرته، على الأقل، على الاحتفاظ بموقف دولها المحايد، تجاه الأزمة الراهنة.
ولعل حضور لافروف في اجتماعات مجموعة العشرين، التي انعقدت في جزيرة بالى الإندونيسية، الشهر الماضي، في حضور خصومها الدوليين، أحد الشواهد الهامة لفشل خطة "العزلة"، إذا ما نظرنا لسياسة الاستبعاد التي سبق وأن تبنتها الولايات المتحدة وحلفائها، على غرار مجموعة الثمانية، والتي تحولت إلى 7 دول فقط، بعد تعليق عضوية موسكو في 2014، إثر ضم شبه جزيرة القرم، وهو ما يعكس عدم قدرة واشنطن على تطبيق نفس السياسات التي طالما طبقتها في الماضي وذلك بالرغم من اقتراحات تم تقديمها في هذا الصدد في أعقاب العملية العسكرية.
نجاح روسيا في كسر "العزلة" التي تسعى واشنطن فرضها عليها، تجلت بوضوح في حالة الانقسام داخل المعسكر الغربي، فيما يتعلق بالعقوبات، وهو ما يعكس حالة من ارتباط المصالح بصورة مباشرة، خاصة فيما يتعلق بالعديد من الملفات، وعلى رأسها ملفي الطاقة والغذاء، واللذين يمثلان كابوسا في رأس أوروبا، خلال المرحلة الراهنة، خاصة مع نجاح روسيا الكبير في تكثيف ارتباطها بمحيطها الإقليمي، عبر "شرايين" الغاز، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة، للتوافق مع روسيا، وربما استرضائها، بعيدا عن محاولات تأجيج الأمور بينها وبين محيطها الإقليمي، والذي ربما يترك تداعيات كبيرة على المستوى القارى في الأشهر المقبلة، خاصة مع اقتراب الشتاء.
ولكن تبقى المعطيات الدولية، هي الأخرى، أحد أهم أسباب تراجع نظرية "العزلة" التي سعت واشنطن إلى فرضها على موسكو، في ظل تعددية القوى التي يمكنها القيام بدور على المستوى الدولي، على غرار الصين، والتي كانت أخر محطات بوتين الخارجية قبل العملية العسكرية في فبراير الماضي، ناهيك عن عدم رهان العديد من القوى الإقليمية في مختلف مناطق العالم، على الجانب الأمريكي، في ظل مواقف الولايات المتحدة التي خذلت حلفائها في السنوات الأخيرة، وعلى رأسهم دول أوروبا الغربية.
وهنا يمكننا القول بأن نظرية "العزلة" الدولية، تراجعت إلى حد كبير في الآونة الأخيرة، وهو ما يبدو واضحا في الحالة الروسية، لتتحول التحركات الأخيرة، سواء في صورة زيارات متبادلة، مع مسؤولي الدول الأخرى، أو الحضور الملفت في المنتديات الدولية، ناهيك عن حالة الانقسام الكبير، سواء على مستوى الغرب أو على المستوى الدولي بأسره، بمثابة شواهد مهمة على قدرة موسكو على التحرك بأريحية في محيطها الدولي.