مشهد جديد تطل به الولايات المتحدة على العالم، في أعقاب مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، في غارة جوية استهدفت محل إقامته في أفغانستان، يحمل في طياته العديد من الرسائل، ربما أبرزها استمرارية الحرب الأمريكية على الإرهاب، وقدرتها على اختراق حصون التيارات المتطرفة، وهو ما يعني بقاء قيادة واشنطن لأحد أبرز المعارك التي خاضتها منذ بداية الألفية، وسمحت لها بمزيد من الانفراد في القيادة الدولية للعالم، وتحديدا منذ أحداث 11 سبتمبر، والتي كانت محلا للإشارة من قبل الرئيس جو بايدن، أثناء الإعلان عن "انتصاره" الأخير، والذي تجسد في القضاء على أحد رموز الإرهاب في العالم، والعقل المدبر للعملية الإرهابية التي هزت أمريكا والعالم قبل ما يقرب من 21 عام.
ولعل عملية استهداف الظواهري، وما تحمله من محاولة صريحة لإحياء الدور الأمريكي فيما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب"، يمثل انعكاسا صريحا للأهمية الكبيرة للمعركى التي خاضتها واشنطن، منذ بداية الألفية للاحتفاظ بالقيادة الدولية، إلى الحد الذي استبقت فيه حقبتها، عبر التنظير لها، فيما يسمى بـ"صراع الحضارات"، وهي النظرية التي أرساها، السياسي الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون، في التسعينات من القرن الماضي، في أعقاب نهاية الحرب الباردة مباشرة، وما تخللها بعد ذلك من محطات، تغيرت فيه استراتيجيات واشنطن في التعامل مع أهدافها، بدءً من سياسة الغزو، والتي بدأت بأفغانستان في 2001 ثم العراق في 2003، مع إضفاء قدر من القدسية عليها عبر تحويلها لحرب دينية حتى نهاية حقبة الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، ثم التحول إلى نهج المصالحة مع العالم الإسلامي، في عهد باراك أوباما، مع انتهاج سياسة التصفية المباشرة، وحتى التحول نحو سياسة الانسحاب العسكري، مع الاعتماد على عمليات نوعية للقضاء على عناصر بعينها.
ولكل مرحلة من المراحل المذكورة، ثمة أهداف محددة، وضعتها الإدارات المتعاقبة كأولويات، فمع بداية "الحرب على الإرهاب"، كان الهدف الذي يتبناه بوش هو "البحث عن صراع" يمكن من خلاله الاحتفاظ بالهيمنة الأحادية على العالم، عبر قيادة حرب عالمية، رغم غياب خصم دولي حقيقي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بينما كان نهج المصالحة، هو تقديم وجه جديد لأمريكا بعدما انفرط عقد حلفائها في منطقة الشرق الأوسط، عبر سياسة "البحث عن بديل" من خلال استحداث حلفاء جدد، يمكنهم السيطرة على المنطقة ودولها، عبر أذرع جديدة، تحمل أيديولوجيات متطرفة، ولكنها في الوقت نفسه يبقى ولاءها الأقوى لواشنطن، خاصة بعد حالة من التمرد بين الحلفاء التقليديين على سياسات أمريكا المناوئة للإسلام، في حين كان نهج "التصفية المباشرة" يهدف في الأساس إلى "البحث عن انتصار".
فلو نظرنا إلى عملية استهداف الظواهري، ربما نجد أنها ليست الأولى من نوعها، فقد بدأها أوباما في 2011، عبر أسامة بن لادن، بينما كان الرئيس السابق دونالد ترامب الأوفر حظا في مثل هذه العمليات، عبر استهداف نجل الزعيم التاريخي للقاعدة حمزة بن لادن، ثم زعيم داعش أبو بكر البغدادي، ليواصل بايدن المسيرة بالإعلان عن استهداف جديد لأحد أبرز قيادات القاعدة التاريخيين، وزعيمها الحالي.
عمليات التصفية المباشرة لقيادات التنظيمات الإرهابية، وأبرزها القاعدة، غالبا ما يرتبط بظروف الداخل الأمريكي، عبر مسارين أولهما حالة الثأر لدى المواطن تجاه هذا التنظيم تحديدا على خلفية أحداث 11 سبتمبر، من ناحية، والأوضاع والمستجدات، على غرار الأزمات التي يعاني منها الأمريكيون في كل مرحلة، وهو ما يتجلى بوضوح في التداعيات الكبيرة للأزمة الأوكرانية الراهنة على الداخل الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بموجات التضخم العاتية وارتفاع الأسعار، والتي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين في مرحلة تبدو حساسة للغاية في الحياة السياسية، مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي، والمخاوف الكبيرة لدى الإدارة الحالية من العودة المحتملة لترامب، مع بزوغ نجمه مجددا في الآونة الأخيرة.
الارتباط نفسه ينطبق على الحالات المذكورة سابقا، بدءً من استهداف أسامة بن لادن، في 2011، تزامنا مع التداعيات الكبيرة للأزمة المالية العالمية، واقتراب انتخابات الرئاسة التي خاضها أوباما في 2012، بينما كانت العمليات في عهد ترامب، متزامنة مع صراعات دائمة مع خصومه الديمقراطيين، والتي نال خلالها قسطا غير مسبوق من الانتقادات والاتهامات، وصل إلى حد الخيانة والعمالة لصالح خصوم واشنطن.
إلا أن الهدف من العملية الأخيرة، ربما يتجاوز الداخل، عبر العودة من جديد، إلى إحياء "الحرب على الأرهاب" لتكون مدخلا مهما للحفاظ على موقع القيادة الدولية، مع الصعود الكبير لخصوم واشنطن، وعلى رأسهم روسيا والصين، وقدراتهما الكبيرة في فرض كلمتهما على الساحة الدولية، في إطار توجه دولي صريح نحو حقبة جديدة من التعددية، وهو ما يعنى أن واشنطن باتت في حاجة ملحة إلى "انتصار" في معركة دولية، من شأنها الحفاظ على موقعها القيادي.
وهنا يمكننا القول بأن "الحرب على الإرهاب"، كانت بمثابة رحلة أمريكية، بدأت قبل ميلادها بسنوات، بينما تعددت الاستراتيجيات في إدارتها، طبقا للمراحل والظروف، التي شهدتها، بينما كان الهدف الرئيسي من ورائها هو الاحتفاظ بالقيادة العالمية، عبر حشد الحلفاء، والتحرك الجماعي تحت الإدارة الأمريكية، أولا، وذلك في إطار عصر الهيمنة، في حين تحولت الأمور بعد ذلك نحو التحرك الفردي، لتحقيق اختراقات كبيرة، من شأنها إعلاء دور أمريكا، بعيدا عن سياسة الحشد، وذلك في إطار تحول واضح نحو التعددية، ونجاح قوى دولية أخرى في فرض كلمتها بالدبلوماسية، وإن تطلب الأمر، بالقوة العسكرية، على غرار ما تشهده الساحة الأوكرانية في المرحلة الحالية.