ربما لم يكن التحرك السريع، من قبل أجهزة الدولة الرسمية، في أعقاب حريق كنيسة "أبو سيفين"، بالأمر الجديد، في إطار "الجمهورية الجديدة"، والتي طالما تبنت نهجا يقوم على احترام مبدأ المواطنة، بمختلف أبعاده، بين كافة المصريين، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين، في انعكاس صريح للمسؤولية التي وضعتها على عاتقها، منذ لحظة انطلاقها، لتحقيق تطلعات الملايين الذين خرجوا إلى الميادين، في 30 يونيو للمطالبة باستعادة بلادهم من براثن التطرف والإرهاب، والتحرك نحو إرساء دعائم الدولة الحديثة، وهو الأمر الذي تشهد عليه العديد من القطاعات المجتمعية التي عانت تهميشا دام لعقود طويلة من الزمن، بينما وجدت نفسها في الصدارة خلال السنوات الماضية.
ولكن بعيدا عن فكرة "المواطنة"، والتي أسهبت في الحديث عنها في مقال سابق، نجد أن التضامن مع ضحايا الحادث المفجع، اتخذ مسارات ثلاثة، ربما يبقى الجانب الرسمي في صدارتها، في ظل الحاجة الملحة للسيطرة على الحريق، وإنقاذ أكبر قدر من العالقين، بالإضافة إلى الدور الذي ينبغي أن تقوم به باعتباره الجانب التنفيذي، في أعقاب الحادث، سواء من خلال نقل المصابين إلى المستشفيات ورعايتهم وتذليل كافة الإمكانات لهم، ناهيك عن الأمور المتعلقة باحتواء التداعيات، كالتعويضات التي يتم صرفها من قبل الحكومة للضحايا والمصابين أو إعادة ترميم "دور العبادة" المنهار، أو غير ذلك من إجراءات، وهى الخطوات التي تمت إدارتها بكفاءة كبيرة من قبل كافة أجهزة الدولة المنوطة، بدءً من الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي أكد على متابعته للأمور عن كثب، مرورا برئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، ووزارة التضامن، في انعاس لحالة من الاهتمام على أعلى مستوى، بالعمل على احتواء الأمور بسرعة.
إلا أن ثمة مسارين آخرين ربما لا يقلان أهمية، عن الجانب الرسمي، ربما اتضحت ملامحها مع اندلاع الحادث وبعده، منها على المستوى الشعبي، وهو ما يبدو في حالة التضامن الكبيرة من قبل الشارع المصري مع الضحايا والمصابين، وهو ما تجلى في صور بطولية من قبل جيران الكنيسة والمارة، الذين قرروا الدخول في قلب النيران، لإنقاذ الأطفال والمصلين العالقين، داخل الكنيسة، بينما جاءت رسائل التعاطف الشعبي، من قبل المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى في أحاديث الناس في الأماكن العامة بمثابة جزء لا يتجزأ من حالة عامة، تعكس توافق بين الجانبين الرسمي والشعبي، خاصة في أوقات الأزمات.
بينما يبقى المسار الثالث، متجسدا في الجانب "غير الرسمي"، والذي تبنته العديد من المؤسسات الأخرى، على غرار الأزهر الشريف، والذي وجه شيخه، فضيلة الإمام الأكبر، الشيخ أحمد الطيب، بصرف إعانات عاجلة لعائلات الضحايا، في حالة أشبه بالانصهار المجتمعي بين الدولة ومؤسساتها الدينية، بينما تمثل امتدادا للدور التوعوي الهام الذي تلعبه تلك المؤسسات، بطريق عملي، في تعزيز حالة الاعتدال، وهو ما يمثل أحد الأركان التي اعتمدتها الدولة في حربها ضد الإرهاب، خلال السنوات الأولى لـ"الجمهورية الجديدة" عبر حملات منظمة سواء من خلال الإعلام أو المساجد، لدحض الأفكار التي سعت جماعات الظلام لبثها، لإثارة الفتنة والانقسام داخل المجتمع المصري.
في حين كان التحرك الإيجابي من قبل بعض منظمات المجتمع المدني، وجها أخر للتحرك "غير الرسمي"، الذي خلقته الأزمة، عبر تقديم دعم مادي لأسر الضحايا وللمصابين، وعلى رأسها التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، وهو ما يمثل انعكاسا للدور الذي ينبغي أن تقوم به هذه المنظمات، والمنوط بها العمل على دعم المجتمع، بعدما قضت سنوات طويلة تعاني فاقدة لـ"بوصلة" العمل، على خلفية الانغماس في السياسة، أو بالأحرى طغيان العمل السياسي على القائمين عليها، مما ساهم في تقويض مصداقية الكثير منها، بسبب خروجها عن دائرة الهدف الذي خلقت من أجله، وتحول بعضها لمنبر سياسي.
وهنا يمكننا القول أن ثمة حالة من التكامل المجتمعي، على نطاقات مختلفة، في التعامل مع الأزمة الأخيرة، بينما تمثل مرآة لحالة عامة من الانسجام، بين مختلف قطاعات المجتمع المصري، بدءً من رأس الدولة، والحكومة، مرورا بالجانب الشعبي، وحتى المؤسسات الدينية، ومنظمات المجتمع المدني، وهو الأمر الذي يمثل نقطة ضوء مهمة انبثقت من تلك الألآم التي أصابت ملايين المصريين، جراء الحادث المفجع، يمكن البناء عليها مستقبلا، ليس فقط في الأحداث المشابهة، وإنما أيضا فيما يتعلق بالعديد من الأمور التي تحتاج إلى التضامن بين كافة المصريين، في إطار مجابهة التحديات الراهنة.