في التغيير الوزاري الأخير ثار الجدل بين كثير من الناس الذين تحولوا بقدرة قادر إلى خبراء في "التغييرات الوزارية وفي الوزراء المرشحين"، وهي العادة المصرية التي لم نتخلص منها، وربما تكون عادة تاريخية أصبحت سمة من سمات الشخصية المصرية، وتتجسد في معرفة كل شيء والاعتراض على كل شيء.
المعرفة والاعتراض كانا لهما أماكن محددة على المقهى أو في التجمعات الريفية والشعبية وبطلها دائم "أبو العريف" أو "عبد الخبير" الذي يدعي معرفته ببواطن الأمور، واتصاله بشخصيات وأجهزة رفيعة المستوى...!
ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي انضم عدد آخر – وللأسف منهم زملاء إعلاميون ومثقفون- إلى فئة "أبو العريف والسيد عبد الخبير"، والمعترض الدائم من على طريقة الأديب الروسي مكسيم جوركي: "جئت هذه الدنيا كي اعترض" وأصبحت الظاهرة حالة عامة.
لم يتحدث أحد من أصدقائنا " السوشيالجية" – مثلا- عن أسباب التغيير أو الفلسفة من وراء هذا العدد من الحقائب الوزارية، وخاصة في ملفات معينة مثل: الصحة، والتعليم، والصناعة والتجارة، والتنمية المحلية، والثقافة.. وهل هذا التغيير يعني تغييرا في السياسات الاقتصادية والملفات الخدمية التي تتعلق وتمس حياة المواطن في مصر.
لم يناقش أحد في ظل هذه الغوغائية والصخب قضية مهمة للغاية وهي قضية الإدارة والمهنية. بمعنى هل شرط أن يكون وزير السياحة خبيرا وأحد العاملين في المجال، أو أن يكون وزير الصحة طبيبا بالبالطو الأبيض حتى نقتنع بترشحه.. أم أن المسألة هنا تتعلق بالقدرة على الإدارة التي نفتقدها في كثير من مجالات العمل في مصر.
فالعالم اتجه منذ فترة في اختيارات القدرة على الإدارة لأنه المسألة المهمة والحيوية في الاقتصاد العالمي.. ومصر أيضا في بعض الأحيان كانت القيادة السياسية تسعى لتعيين خبراء الإدارة في مناصب ووزارات ذات طبيعة مختلفة تماما.
منصب وزير السياحة على سبيل المثال فقد تولاه الدكتور فؤاد سلطان -رحمه الله- منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وحتى عام 1993، واختلف مع الراحل الدكتور عاطف صدقى، رئيس مجلس الوزراء الأسبق، وأعضاء الحكومة، وقدم استقالته 4 مرات وتم استجوابه فى مجلس الشعب واتهم بالخروج على الدستور لإيمانه بمبدأ الخصخصة.
رجل الاقتصاد الخبير القدير فؤاد سلطان، حصل على بكالوريوس التجارة، من جامعة القاهرة في عام 1951، ثم اتجه لعمل دراسات عليا في الاقتصاد في عام 1954، ثم درس التحليل المالي والسياسي في معهد صندوق النقد الدولي عام 1968، وعمل في البنك المركزي المصري منذ عام 1951 وحتى عام 1971.
بعد ذلك تقلد سلطان منصب مستشار صندوق النقد الدولي في الفترة ما بين عام 1971-1974، ثم مدير عام البنك العربي الدولي منذ عام 1974، حتى عام 1975، ليشغل منصب رئيس بنك مصر إيران في عام 1975 وحتى عام 1980.
من بعده جاء الدكتور ممدوح البلتاجي رجل القانون والإعلام المتميز المحنك وتولى حقيبة السياحة لمدة 11 عاما، حصل على ليسانس حقوق من جامعة الدبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية بجامعة السوربون 1970. ودكتوراه التخصص في الاقتصاد، ودكتوراه الدولة في العلوم السياسية.
إذن اثنان من أبرز من توليا متصب وزير السياحة لم يعملا في أي من قطاعات وزارة السياحة.
المدهش أن بعض الدول الأوروبية التي نتشدق بضرورة وحتمية أن نحتذي بها ونصل إلى مستواها العلمي والاقتصادي تتجه إلى الإدارة، وليس إلى المهنية، والتخصص حتى فى أرقى المناصب وأكثرها حساسية.
في فرنسا وزيرة الجيوش الفرنسية- وزيرة الدفاع- فلورنس بارلي لم تكن ضابطة في القوات المسلحة الفرنسية، بل هي سياسية ورائدة فرنسية في مجال الاقتصاد، كانت مستشارة في وزارة التعليم. ودرست في معهد الدراسات السياسية بباريس والمدرسة الوطنية للإدارة وحتى عام 2004 وتولت وكيلة وزارة المالية، في نهاية الأمر اتجهت بارلي إلى مجال الاقتصاد وبعد ذلك عملت في الخطوط الجوية الفرنسية، ونائبة المدير العام للشركة الوطنية للسكك الحديدية لقسم التخطيط والمالية، وعام 2017 عينها الرئيس إيمانويل ماكرون لمنصب وزيرة الدفاع في حكومة فيليب الثانية.
والحال نفسه بالنسبة لوزيرة الدفاع الإسبانية مارجريتا روبليس فهي سياسية وقاضية إسبانية ولدت. أكملت دراسة القانون في جامعة برشلونة. اختارها رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لشغل منصب وزيرة الدفاع في سنة 2018. وتولت ايضا منصب وزيرة الخارجية وشؤون الاتحاد الأوروبي بشكل مؤقت من 30 نوفمبر 2019 إلى 13 يناير 2020.
ووزير الصحة الألماني الأسبق كان يحمل شهادة البكالوريوس في الفنون وماجستير آداب.
أما وزير الصحة البريطاني في حكومة بوريس جونسون فهو وزير الخزانة السابق ساجد جافيد، السياسي البريطاني ذو الأصول الباكستانية، وكان يعمل مدير سابق في دويتشه بنك. وتم تعيينه في منصب وزير الداخلية في 30 أبريل 2018، وأصبح أول بريطاني من أصول مهاجرة يتولى وزارة الداخلية.
ساجيد درس الاقتصاد والسياسة في جامعة "اكستر" البريطانية وانضم بعد تخرجه إلى حزب المحافظين. ثم عمل في المجال المصرفي، ورُقّي بسرعة ليصبح المدير الإداري في البنك الألماني "دويتشه بنك".
هذه بعض الأمثلة والنماذج التي تعني أن العبرة ليس بالتخصص المهني، ولكن بالقدرة على إدارة تلك الحقيبة الوزارية المكلف بها الشخص، ونحن في مصر نحتاج حاليا إلى من يدير بكفاءة واقتدار.