السينما الوحيدة التي كانت تتميز بها مدينتى دسوق بمحافظة كفر الشيخ بناها مهندس مصري إيطالي على الطراز المعماري للأوبرا الإيطالية، في أواخر الثلاثينات أو أوائل الأربعينات من القرن الماضي، وكانت ملك عائلة المخرج المعرف الراحل سمير عبد العظيم.
"سينما مصر" هذا كان اسمها، كانت ملاذا لأجيال متعاقبة منذ الأربعينات وحتى بداية الألفية الأولى للترفيه والتثقيف ومشاهدة سحر الفن السابع، لكن فجأة ومع الفوضى التي واكبت أحداث يناير 2011 تم هدم السينما وتحويلها إلى برج سكني وأسفله سوبر ماركت كبير، وزالت السينما الوحيدة في المدينة.
في ذلك الزمن ومع وجود المشروع الثقافي الكبير للدولة المصرية والذي امتد منذ نهاية الخمسينات والستينات وحتى نهاية السبعينات تقريبا، كان هناك سينما أخرى مفتوحة يشاهدها كل الناس في الهواء الطلق كل خميس واثنين من كل أسبوع، وهي سينما الحائط التي كانت الثقافة الجماهيرية وهيئة قصور الثقافة تحرص على تقديمها مجانا للناس في إطار مشروع الدولة ورسالتها، بأن الثقافة حق مكفول للجميع وليست سلعة، وهدفها في إعادة صياغة الوجدان المصري وتنشئة جيل جديد يؤمن بمبادئ الدولة الجديدة، وأن تصبح الثقافة والفنون الراقية في متناول الجماهير، وعدم اقتصار الإنتاج الثقافي على فئة واحدة من فئات المجتمع، وأن الثقافة ضرورة من ضرورات الحياة والتقدم والوعي التنوير.
خلف عمر أفندي على النيل وفي شارعنا - شارع الدلتا - كانت تدور ماكينة السينما لتلقي بشخوصها المتحركة على الحائط التي تتعلق به أبصار المئات من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ الجالسين على الأرض أو الكراسي الخشبية، وتتابع هذا الفن الراقي من أفلام الستينات ورسالتها ويحلق فوقها صمت التقدير والاحترام لما تقدمه الدولة لهم من فن مازال راسخا في الوجدان والذاكرة.
المشروع الثقافي أنتج حوالي 500 قصر للثقافة في مدن المحروسة وقراها، وكانت تلك القصور هي الأداة والوسيلة التي كانت الدولة تسعى لتوصيل رسالتها للناس عبرها سواء، من خلال برامج ثقافية أو فنون موسيقية وبرامج مواهب أو سينما أو برامج دينية تتماشى ومشروع الدولة.
قصور الثقافة التي نالها الإهمال مع نهاية السبعينات كما نال كل جوانب الحياة الثقافية والاقتصادية أيضا في مصر، حققت في زماننا ما تسعى إليه الجمهورية الجديدة حاليا في لا مركزية الثقافة، وتحقيق العدالة الثقافية في إطار مشروع التنمية الشاملة.
هذا الملف الحيوي والذي يمثل أمن قومي ودرعا واقيا للعقل والوعي للشخصية المصرية، أتمنى أن يكون في مقدمة أولويات الوزيرة الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة الجديدة، من أجل إحياء دور قصور الثقافة وأنشطتها ورسالتها، ولو نجحت الوزيرة نيفين في جعل هذا الملف هو مشروعها القومي فسوف تحقق الأهداف الكبرى للمشروع الثقافي للجمهورية الجديدة في لامركزية الثقافة، وأن الثقافة حق مكفول للجميع، وسوف يبزغ جيل بل أجيال جديدة قادرة على الإبداع من القرى والنجوع والمدن خارج القاهرة وفي كافة المجالات ويظهر جيل من المواهب في كافة الفنون بعيدا عن التطرف والعنف والأفكار المشوهة لجماعات الظلام.
لدينا حوالي 540 قصرا وبيت للثقافة نستطيع من خلالها إحياء فكرة سينما قصور الثقافة والتي اقترحها عدد من الفنانين والشعراء مثل الفنان الراحل نور الشريف، بحيث يتم تقديم العروض السينمائية للشركات بأسعار رمزية وأيضا تقديم أعمال السينما المستقلة للشباب من خريجي معاهد السينما من أجل إعادة صياغة الوجدان وضبط الوعي ومحاربة الأفكار الشاذة من خلال الفن.
أيضا أطلب من الوزيرة الدكتورة نيفين بإحياء الفرق المسرحية لقصور الثقافة التي أغلق الكثير منها أبوابه في منتصف الثمانينات بسبب قلة الموارد والهجرة الى القاهرة للالتحاق بالمسرح التجاري.
وبمناسبة الموارد المالية فهناك عجز شديد تعاني منه هيئة قصور الثقافة، وأتذكر حوارا للدكتور أحمد عواض، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة السابق، حوارا صادما، فعدد قصور الثقافة 540 يعمل بها 14 ألف موظف بميزانية 648 مليون جنيه أي أن غالبية الميزانية تذهب للمرتبات والمكافآت وهو ما لا يساعد في تنفيذ المشروع القومي للثقافة في مصر.