من منا لم يشاهد حفلات ليالى التليفزيون خاصة مواليد جيل الثمانينات والتسعينات، الحفلات التى كانت متاحة للجميع، والتفاف العائلة كبيراً وصغيراً لمشاهدة حفلة لم يستطع حضورها، حيث لم يكن الفن مقتصراً على فئة دون أخرى، بل كان متاحاً ومتوفراً فى البيت والمنازل والقرى المختلفة، كانت تتجمع العائلات مع تحضير المسليات لمشاهدة والاستماع بالأعمال الفنية والغنائية الطربية وأيضاً الترفيهية، ذلك الأمر الذى نشأنا عليه منذ نعومة أظافرنا، وظللنا طوال الفترة الماضية نبحث عن رائحة هذا الزمن ولم نجدها بسبب العديد من المتغيرات، الأمر اختلف فى الفترة القليلة الماضية والتى مرت دون أن نشعر بها بسبب ما حل على مصر من أحداث والوطن العربى بأكمله، ولكن هذا لم يمنع الفن، بل طرح أنواعا جديدة من الفنون، وغير مجراه بشكل جذرى، مما أعطى للمتابعين القدرة على الانتقاء ما بين أعمال وأخرى، كتب لبعضها النسيان والأخرى كتبت فى سجلات التاريخ، وأصبحت حالة توثق مراحل معينة فى تاريخ الفن والثقافة المصرية والعربية، ولكننا ظللنا متعلقين بالنستولجيا القديمة ولا نعرف لماذا اندثرت، بعد أن اختفت تجمعاتنا سوياً مع خفض الإضاءة فى المنزل، والمشاهدة والاستماع لحفلة تقترب على الأربع ساعات كاملة، يتخللها فاصل وحيد وفقرتين لفنانين، والتى كانت تقام فى الأغلب فى أيام الإجازات من عطلة نهاية الأسبوع، الجو العائلى مع الأجواء الفنية كانت ممتعة، تلم شمل الأسرة على ما يعبر عن غذاء روحى وعقلى فى نفس الوقت.
اختفاء مثل هذه الحفلات وظهورها كحفلات خاصة فى بعض الأقطار لم يمنع المصريين من نشر الثقافة الحقيقية والفعاليات الفنية، وها هى تعود من جديد فى أكثر من شكل، بداية من اتخاذ وزارة الثقافة دورا حقيقيا ومؤثرا من خلال الاهتمام بالأعمال الفنية والمسرحية وإعادة تشغيل المسارح بما يناسب الجمهور واختلافه، وطرح مواهب جديدة مميزة على مسارحها فى روائع من الأدب المصرى والعربى والعالمي، وأيضاً الفعاليات الثقافية فى منطقة مصر القديمة المتمثلة فى الحسين والغورية والمناطق التراثية، والتى ينطلق فيها ندوات يتخللها أعمال فنية متعلقة بالتراث وأيضاً بدعم من وزارتى الثقافة والآثار بالتنسيق مع المحليات والعديد من الجهات الرسمية، ولكن ما استوقفنى فعلاً هو مهرجان القلعة، والذى يمتد تاريخه لأعوام قليلة ما لبث أن يحتل الصدارة للاهتمام المجتمعى لما يقدمه، واختتمت بمهرجان القلعة الذى جعل الكثيرون يرتوون بالفن الأصيل مع ابتسامة جماعية كادت أن تنسى مع دوران الحياة الاجتماعية، والتى كانت واضحة على وجوه الحضور ووثقتها كاميرات الحفل.
مهرجان القلعة هذا العام حظى باهتمام كبير، على كافة الأصعدة، فبداية من توفير التذاكر بأسعار فى متناول الجميع، الأمر الذى يدل على أن الفن ليس حكراً على فئة دون غيرها، مع توفير تلك الأمسيات الترفيهية الثقافية الفنية لشريحة كبيرة من المصريين، وأيضاً إقامتها فى مكان تراثى تاريخى يعبر عن روح الأمة المصرية ويبرزها والذى يعتبر أيضاً شكلاً من أشكال الترويج للسياحة، لم تحتل هذه الأمسيات اهتمام المجتمع من كل ذلك فحسب، بل إنها حظت بدعم إعلامى وصحفى فريد من نوعه، فضلاً عن اهتمام المنصات المختلفة بمثل ذلك الحدث الرائع.
فبعض المؤسسات الإعلامية اهتمت واستطاعت توفير مثل هذه المادة الغنية للجمهور فى المنازل، عن طريق بث الحفلات على وسائل التواصل الاجتماعى والتليفزيوني، مما أتاح لمن لم يستطع الذهاب أن يشاهد ويستمتع بنفس الحالة القديمة لحفلات التليفزيون المصرى منذ عقود.
فتحية لصناع مثل هذه الحفلات التى جعلتنا نعاود الشعور بالدفء والحنين، وتحية لمن دعمهم وساعد فى مهمة نشر الفن فى صورته الحقيقية، وساعد فى انتشار الثقافة المصرية المتمثلة فى أحد أقوى أسلحتها وهى الفن المصرى فى ربوع العالم أجمع، ونتمنى بجدية أن توفر وزارة الثقافة بالتعاون مع مؤسسات الدولة المختلفة مثل هذه الحفلات على مدار العام وتذاع تحت عنوان ليالى مصر الفنية، فبالفن والثقافة تسمو الأمم، وترتقى الأذواق، وتُحارب العصبيات والتطرف وتجدد طاقتنا لبناء المزيد والمزيد وجنى الخيرات.