أصحاب النعم والأموال والجاه ينشغلون بهذه النعم عن المنعم سبحانه
مضى رمضان بعد أن أسعدنا وأكرمنا وقربنا من ربنا ووصل رحمنا فأصبحنا كاليتامى بعده، وينبغى علينا جميعاً أن نشكر الله على نعمه الكثيرة التى أنعمها علينا عامة وفى شهر رمضان خاصة، ولا ينفك الإنسان فى الدنيا عن حالتين إما يسر أو عسر، رخاء أو شدة، غنى أو فقر، صحة أو مرض، عطية أو بلية، فهو يشكر فى النعمة ويصبر فى البلية، وإذا صبر فى البلاء تحول إلى عطاء، وتحولت بليته إلى عطيه.ولذا فالإيمان نصفان: شكر وصبر. وقد سئل العلماء كثيراً أيهما أفضل الشكر أم الصبر؟ فكانت إجابتهم: الشكر مع العطاء يكون معه فرح وسرور وسعادة مما يجعل العبد يحب ربه ويقبل عليه أكثر، لكن الصبر معه ألم وكرب وضيق فيصبر وهو فى ألم وهم وغم. وهل الذى يشكر ربه على الحرية مثله كالذى يصبر على السجن، وهل الذى يشكر ربه على ولادة ابن كالذى يصبر على فراق فلذة كبده، وهل الذى يشكر ربه على الشفاء كالذى يصبر على المرض العضال المزمن.
الشكر معه حب وود وقرب من الله، ولكن الشاكرين قلة فى كل الأوقات «وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادى الشَّكُورُ»، لأن أصحاب النعم والأموال والجاه ينشغلون بهذه النعم عن المنعم سبحانه، بل قد ينسب بعضهم النعمة إلى نفسه واجتهاده و«شطارته» وذكائه، فيدور حول النعمة وحول ذاته وينسى المنعم الأعظم سبحانه واهب النعم كلها «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا».وقد حدث هذا مع قارون حينما ذكره علماء عصره بنعمة الله وفضله عليه قال «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى»، وكلمة «عندى» بالذات هى التى أضاعت قارون، كما أنا كلمة «أنا» التى تدل على الغرور والعجب هى التى أضاعت إبليس وهو القائل تحدياً لله سبحانه وترفعاً على آدم «أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين»، وقد عاش فرعون مع النعم ونسى المنعم سبحانه «أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى».
وهذا الدوران المقيت مع النعمة هو السبب الرئيسى لقلة الشاكرين، أما الصبر فجزء منه شبه إلزامى وفيه يصبر من يعبد الله ومن لا يعبده.والفرق بينهما أن الأول يصبر ابتغاء مرضاة الله ويحمد الله على ما ابتلاه به ويدعوه أن يرفعه عنه، أما الذى لا يعبد الله فقد يصبر جبلة وخلقه، ولو أن هذا الرجل وجه ذلك لله لكان له الأجر العظيم. والله سبحانه غنى عنا ولا يريد منا سوى شكره على نعمته، وهو لا يريد ولا يحب أن يعذب عباده فى الدنيا والآخرة «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ»، وقد تمر على الإنسان حالتى الرخاء والشدة فى يوم واحد فيتقلب فى هذا اليوم بين عبادتين عظيمتين هما الشكر والصبر، فقد تحدث له حادثة سيارة وهو ذاهب لعمله فيصاب بكدمات أو جروح أو تتلف بعض أجزاء من سيارته، فيصبر ويرضى عن الله ويسترجع، ثم يعود إلى بيته فيجد أن ابنه قد نجح فى الثانوية العامة وتفوق ليدخل إحدى كليات القمة فيشكر الله ويحمده، وبذلك يتقلب قلبه بين عبادتين عظيمتين هما الصبر والشكر، وقد يحدث ذلك فى ساعة واحدة، فيضايقه أو يشتمه سفيه فى الصباح وهو ذاهب لعمله، فيصبر حتى إذا وصل العمل فوجئ بترقية أو منحة علاوة فيشكر.
وعباد الله الصالحين عادة ما يتقلبون بين مراتب السراء والضراء وبين الشكر والصبر، وبين الصلاة تارة وقضاء حوائج الناس أخرى، وبين واجبه كزوج أو رسالته كداعية إلى الله، وبين مسؤوليته كموظف ومسؤوليته كأب وراعى للأسرة، وهكذا فالصالحون يتقلبون بين طاعة وأخرى. أما أهل الغفلة عن الله فالواحد منهم يغتر إذا وسع الله عليه، يشح بنفسه حينما تأتيه السلطة، وينسى ربه والفقراء حينما يصبح مليارديراً، وينسى أنه حينما ولد من بطن أمه كان عرياناً لا يملك الثوب الذى يلبسه وسيموت كذلك، فأهل الغفلة لا يشكرون الله عند الرخاء ولا يعرفون إلا أنفسهم وذواتهم التى تتضخم كلما تضخمت سلطاتهم وكثرت أموالهم، وإذا أصابتهم مصيبة بمرض أو فقر أو حاجة أو سجن جزعوا جزعاً شديداً، ولاموا ربهم دون أن يلوموا أنفسهم، وانطلقت ألسنتهم بالسخط على الله وقضائه وقدره «إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * وإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ».