ظلت المجالس العرفية على مدار قرون طويلة، وسيلة بالغة الأهمية لإنهاء النزاعات والحد من الخلافات بين الأطراف المتنازعة، كونها قائمة على تبنى اى وسيلة تحقق العدالة وتنهى النزاع والمشاحنات وحل الخلافات، والوصول للهدف الأسمى وهو استتباب الامن والاستقرار وحفظ الحقوق.
ورغم وجود بعض الأراء التي تنتقد فكرة المجالس العرفية، وتوجيه التهم لها بأنها تتعارض مع المحاكم والقضاء، إلا أنى ومع احترامى الكامل لتلك الأراء ، على أنى أجد نفسى أكثر ميلا لفكرة أن المجالس العرفية لا تتعارض مع المحاكم الرسمية، وإنما تسير معها في نفس الطريق ففي النهاية الهدف واحد، وهو حفظ الامن بين الناس ووالضرب على يد الظالم والمتعدى وإعادة الحقوق لأصحابها، وهو ما يتحقق في المجالس العرفية دون الحاجة للذهاب للشرطة والضغط على المحاكم بقضايا يسهل حلها في جلسة بين الطرفين.
أبناء الصعيد والريف والمناطق الشعبية، أكثر فهما ودراية بمعنى ومفهوم واهمية المجالس العرفية، ودورها الكبير والحيوى في حل المشاكل اليومية في بيئاتهم ومحيطهم، بدءا من شجارات الجيرة وخلافات الأقارب ونزاعات المواريث وصولا إلى المشاكل الأسرية والزوجية، وهو ما رفع الكثير من الملفات والقضايا عن كاهل المحاكم المكتظة عن أخرها، مما أدى إلى بطء التقاضى والبت في القضايا الشائكة الكبيرة والمعضلة.
في الماضى القريب، وأنا أحد أبناء الريف وشاهد على الدور الكبير والإيجابى للمجالس العرفية في حل الكثير من المشكلات الشائكة التي ظهرت في قريتنا، كان من المعيب والنادر على أحد أطراف النزاع اللجوء لقسم الشرطة ورفع الدعاوى القضائية أمام المحاكم، في ظل وجود رجالات وهامات وقامات لديهم القدرة على الفصل في النزاع خلال جلسة واحدة بين الطرفين المتنازعين، رجلا يتمتعون بحنكة ومهارة وقدرة على إيجاد الحلول التي تقرب وجهات النظر ويخرج الطرفين المتنازعين متراضيين وكل طرف يخرج من الجلسة لتبادل الزيارات فيما بينهم.
لكن مؤخرا، لمست تغير فى ثقافة أهل الريف، حيث أصبح الهرولة لعمل محضر شرطي، هو الحل الأسهل والأسرع لأى طرف - جانى أو مجنى عليه - المهم بالنسبة لأى طرف هو حجز دور في المحاضر الشرطية، كى يكون له الأسبقية في الشكاية، وهو ما يجعل له النصيب الأكبر في مقاضاة الطرف الأخر، مما وسع الفجوة وزاد مساحة الخلاف والنزاع بين أبناء القرية الواحدة والأقارب والجيران، وسلب القرية اجمل ما فيها وهو تقارب أهلها وابنائها.
حقيقة الأمر، لست أعلم السر وراء هذا التغير، لكن ما أعلمه جيدا أن تلك المجالس تنعقد برضا كامل من الطرفين المتنازعين، خاصة انهم يختاروا قضاة الجلسة بكامل حريتهم، حتى مكان انعقاد جلسة الصلح تتم بالتوافق ورضا الطرفين، وهو ما يضمن نجاح الجلسة ورضا الطرفين بالحكم الصادر منها، لذا أدعو الله أن يديم تلك الهبة والنعمة على القرية المصرية، ويصلح بين المتخاصمين ويوفق كل من سعى في خير بين الناس.