من هنا ومن هذا المكان وبين أحضان التاريخ، تطرد العملة الجيدة العملة الرديئة، ويطارد الفن الراقي والموسيقى أشباح التلوث والضجيج ورموز الانحطاط الفني.. فمن لغير الموسيقى الحقيقية والفن والإبداع أن يشكل وجدان ووعي البشر، وينقي نفوسهم، ويزرع فيها قيم الحق والجمال والحب.. فكما يقول بعض الفلاسفة: "من دون الموسيقى يبدو العالم فارغا"، والموسيقى تمنحنا شهوة الحلم والذهاب بعيدا في الحنين، وتعطي روحا للكون، وأجنحة للعقل".
فالموسيقى لا تكذب.. فإن كان ثمة تغيير نريد إحداثه في العالم، فالطريقة الوحيدة هي الموسيقى، فالفن الحقيقي هو من يصنع الأمة بحضارتها وتاريخها ووعيها ومجدها.
في لحظة ما يتجلى مجد الغناء الأصيل عبر أيام قليلة يتحلق حوله الجميع، الصغار والكبار يرددون الكلمات ويتذوقون الألحان ويتأملون مجد التاريخ في قلعة صلاح الدين.
وكأن التاريخ وقف شامخا في محكي القلعة يتباهى بأصالة الفن المصري والعربي وعراقته أيضا.
في أمسيات فنية بديعة في جو صيفي رقيق النسمات التي تداعب وجوه آلاف البسطاء وتتسكع بين خصلات شعورهم منذ يوم السبت قبل الماضي، وحتى ختام المهرجان الدولي للموسيقى بالقلعة يوم الأربعاء المقبل.
المتعة ممتدة حتى آخر رمق فيها مع نغمات الموسيقى العربية الأصيلة، لفرق دار الأوبرا وأصواتها الشابة الشجية العذبة، مع أصوات نجوم الفن والطرب والتواشيح في مصر.
الآلاف من البسطاء المتدفقة يوميا إلى ساحات القلعة كانت تقول الكثير في صمت بليغ، فالفن الجيد مثل العملة الجيدة والوجبة الجيدة أيضا، أينما توجد نكون نحن عشاقها وندمائها وبأسعار زهيدة.. المهم أن يستمر هذا الفن من القلعة إلى الساحات الشعبية وقصور الثقافة وإلى الأماكن الأثرية والسياحية المفتوحة من القاهرة للإسكندرية للأقصر لأسوان وكفر الشيخ والمنصورة ودمياط ومرسى مطروح والواحات وغيرها، والمهم هنا الإرادة والإدارة في إتاحة الفن للجميع وليس مجرد سلعة يتهافت عليها من يملك أكثر ، تلك هي الرسالة.
السبت قبل الماضي عشت هذه الأحاسيس واسترجعت معها زمان الفن الأصيل وسط اكثر من 8 آلاف متفرج في الليلة الرابعة من ليالي القلعة الموسيقية في عامها الثلاثين، استمتع الجميع على مدار أكثر من ثلاث ساعات بأمسية فنية راقية ورفيعة المستوى. كانت بمثابة حصة غسيل وتطهير كامل للوجدان والأذن والعين أيضا، من التلوث البصري، لموجة العبث الغنائي التي سادت الشارع المصري، من مواقف الميكروباص وحتى عالم الزيف الفني الشمالي.
موسيقي وألحان وكلمات وأصوات غاية في الإبداع تفاعل معها الصغار قبل الكبار، رغم أنها تعود لزمن مضي عليه نصف قرن تقريبا.. كلها جاءت في محبة الفنانة الرائعة الراحلة وردة وبأصوات نجمات وزهرات الأوبرا المتألقات مروة ناجي ورضوى سعيد وشروق ومروة حمدي.
مروة ناجى انتزعت إعجاب الجميع بأداء مميز وواثق وقوي بقيادة المايسترو إيهاب عبد الغفار، وشدت بنخبة من أعمال الفنانة الراحلة تفاعل معها الحضور وردد كلماتها منها "فى يوم وليلة، اكدب عليك، ليالينا، ويا أهل الهوى".
وتفاعل الجمهور المنتشي بالأجواء التاريخية لمحكي القلعة والطقس الليلي البديع لشهر أغسطس مع نجمات الأوبرا للموسيقى العربية رضوى سعيد، شروق، مروة حمدي اللاتي نجحن فى جذب الأنظار بجمال الأصوات وصدق الأداء وقدمنا: "أنا مالي، العيون السود، لو سألوك، الربابة، ووحشتونى".
ثم يأتي دور الفتى الساحر بصوته وبأدائه المدهش، فتى الغناء العربي، آخر شيوخ الطرب الذي يكاد يحمل وحده الآن راية الأصالة والغناء الحقيقي والتراث في وجه العبث، مدحت صالح الذي أشعل المحكي وكاد أن ينطق التاريخ ويصفق من يسكن صفحاته وجدرانه في القلعة مع كل اغنية يشدو بها، صفق الجمهور كثيرا وتنادي بحبه، وبادلهم الفتى "مدحت" حبا بحب بعد كل أغنية "بحبكم".
رأيت في هذا الحفل مدحت الفتى الذى تمكن من الحفاظ على نفسه وصوته وبدا في لياقة بدنية وفنية كاملة الأوصاف .غنى وغنى معه الجمهور العاشق التواق للفن الحقيقي وشدا بنخبة من أعماله الخاصة، وعدد من مؤلفات التراث بمصاحبة الموسيقار وعازف البيانو الشهير عمرو سليم، وفرقته كان منها: "برمي السلام، راجعين يا هوى، يتقال، المليونيرات، يوم ما قابلتك، 3 سلامات، قلب واحد، قد الوعد، النور مكانه في القلوب، ماشي في ضلها، مافيا، وردى، نورتي قلبى، وابن مصر" التى اختتم بها الحفل.
إلى جواري جلس الصديق الدكتور الفنان الدكتور مجدي صابر مدير دار الأوبرا المصرية، وبعد كل أغنية كان حوار سريع يدور بيننا عن دور الفن في المجتمع وان هنا هو الساحل الشمالي للبسطاء من أهالينا في القاهرة وبعض المحافظات، الذين جاءوا بأطفالهم لإثبات أن العدالة الثقافية حق للجميع، ومن حق كافة المصريين أن يستمتعوا بهذا الفن لانهم في اشتياق اليه ويستطيع أن يعيدهم الى رشدهم ووعيهم المفقود في عصر كيكا وسيكا والكمون والشطة و"الرزع والهبد والدوشة".
أيام المهرجان الموسيقى تلألأت بنجوم الفن مثل علي الحجار وهاني شاكر وشيرين عبد الوهاب ونادية مصطفى وهشام عباس ، حنان ماضي، النجمة اللبنانية نوال الزغبي، والموسيقار الكبير عمر خيرت»، بالإضافة إلى نجوم الغناء الشبابي، مثل :«دينا الوديدي، فريق وسط البلد، بلاك تيما، محمد محسن»، ولم تغفل أيضا عن تقديم الإنشاد الديني بمشاركة شيخ المنشدين المصريين المنشد الكبير ياسين التهامي، وفرقة «مواويل» المنشد عبد الرحمن بلالة وسيد إمام، وفرقة «الحضرة»، حيث تجمع كافة ألوان الغناء لكي ترضي جميع الأذواق
هل يتخيل أحد أن ثمن تذكرة الحفل الواحدة والتي قررتها دار الأوبرا المصرية برئاسة الدكتور مجدي صابر مدير الاوبرا هي 20 جنيها فقط.. فثمن التذكرة يمكن أسرة مكونة من 5 أفراد حضور الحفل بمائة جنيه فقط وبعد الحفل يمكنهم تناول وجبة عشاء شعبية فاخرة بالمائة الأخرى..!
في الحقيقة ما أثار اعجابي واندهاشي هو موافقة هؤلاء النجوم على الغناء أمام الاف الناس من حي القلعة والسيدة والحسين وأحياء القاهرة الأخرى، فالمكان لا يتسع لاكثر من 10 الاف شخص فقط ولو اتسع لأضعافه لامتلأ عن آخره
هل تتخيل أن يأتي يوم لحضور حفلة لمدحت أو الحجار أو شيرين أو هاني شاكر، ثم أخيرا للموسيقار عمر خيرت بتذكرة ثمنها 20 جنيها..؟! إنه الحلم الذي حلمنا به وناشدناه أن يأتي.. وها هو الحلم يصبح حقيقة ومشروعا نتمنى أن يستمر طوال العام لتنظيف آذن مصر ووجدانها.
الموسيقار الكبير عمر خيرت، والذي شكلت الموسيقى التي لحنها داخل الكثير من الأعمال الدرامية وخاصة في السينما وجدان العديد من عشاق الفن الراقي المحترم، قرر المشاركة في ختام حفلات القلعة للتأكيد على تواصله الدائم مع الجمهور من مختلف الفئات العمرية، وخاصة من البسطاء ومحدودي الدخل، والذين لا يقدرون على شراء تذكرة حفلاته الخاصة، وليؤكد أنه واحد منهم وأنه واحد من المؤمنين بأن «الفن للجميع»، وأن الموسيقى غذاء للوجدان والروح.
يوم الأربعاء المقبل سيستمتع الآلاف في القلعة بمجموعة كبيرة مميزة من موسيقى عمر خيرت ومنها :«صابر يا عم صابر، البخيل وأنا، ليلة القبض على فاطمة، ضمير أبلة حكمت، خلى بالك من عقلك، قضية عم أحمد، مسألة مبدأ، اللقاء الثاني، ترنيمة حب، عارفة، إعدام ميت، غوايش»، وغيرها من الألحان الموسيقية التي يتفاعل معها الجمهور.
الإرادة في تقديم الفن الجيد والقيمة الحقيقية للإبداع للناس من دار الأوبرا المصرية، تلاقت هذه المرة مع الرغبة الصادقة والنوايا المخلصة للقائمين على قناة " الحياة" الفضائية لإذاعة تلك الحفلات على الهواء مباشرة يوميا بعد أن قرر الصديق محمود التوني رئيس شبكة قناة "الحياة" بالاتفاق مع الدكتور مجدي صابر مدير دار الأوبرا على اذاعتها ومتابعة الملايين لها بما يعني أن للثقافة والاعلام دورهما في ترسيخ قيم الفن واستعادة الوعي المفقود للمجتمع المصري.
وأقترح على الصديقين الدكتور مجدي صابر ومحمود التوني أن يستمر هذا التعاون طوال العام بتوجيهات معالي الوزيرة نيفين الكيلاني في كافة المحافظات وداخل قصور الثقافة وساحات الأماكن التراثية والأثرية.... لتعود مرة أخرى أيام وليالي الفن الجميل في زمن "أضواء المدينة" ولم لا تكون هناك حفلات تحت اسم "أضواء الحياة" ترعاها قناة الحياة مع وزارة الثقافة والمحليات ونقابة المهن الموسيقية.