جاء التهديد الأجنبى للوجود العربى والإسلامى فى الأندلس سريعًا وخطيرًا، وهو ما جعل فكرة الاستعانة بجيوش عربية إسلامية من المغرب العربى فكرة حتمية، وهو ما فعله ملك إشبيلية المعتمد بن عبادة، وهو ما ذكرناه أمس، حيث أكدت الدراسة التى وضعها الدكتور عبدالحليم عويس أن الاستعانة بملك مسلم هو يوسف بن تاشفين، زعيم المرابطين فى المغرب، كانت قدرًا مكتوبًا على جبين الأندلس، للتخلص ليس من الغازى الإسبانى فقط، بل ومن ملوك الطوائف، ليكون وجود ابن تاشفين فى الأندلس بمثابة حقنة إنقاذ للدولة الأندلسية من السقوط لعدة قرون.
ويستكمل الدكتور عويس حديثه عن ملوك الطوائف وابن تاشفين، فيقول إنه قد تبين لخليفة دولة المرابطين بعد ذلك أن ملوك الطوائف هؤلاء ليسوا أهلاً للبقاء فى مراكز السلطة فى الأندلس، وجاءته النداءات والفتاوى من العلماء، كالغزالى، بوجوب الاستيلاء على الأندلس، فاستولى على الأندلس، وأعاد إليها وحدتها، وطرد هؤلاء الطائفيين الذين كانوا يخشون قدومه، ويفضل بعضهم النصارى عليه، وفى مدينة «أغمات» بالمغرب الأقصى عاش «ابن عباد» أشهر ملوك الطوائف بقية أيامه فقيرًا ذليلاً لا يجد ما يكفيه!
إن هذه هى النتيجة الطبيعية لكل ملوك طوائف فى كل عصر، فالذين يخشون الموت سيموتون قبل غيرهم، والذين يحسبون للفقر حسابه مضحين بكرامة دينهم، ووجود أمتهم، سوف يصيبهم الفقر من حيث لا يشعرون، ولقد نسى ملوك الطوائف هذه الحقائق؛ فنغص الله كل شىء عليهم حتى الموت، كما قال ابن صمادح الطائفى، حاكم «المرية» وهو يحتضر، ويسمع أصداء الهجوم على قصره «فليبحث ملوك الطوائف فى كل عصر عن الحياة، حتى لا يبحثوا ذات يوم عن الموت فلا يجدوه، وحتى لينغص الله عليهم كل شىء حتى الموت.. فتلك سُنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا».
كما مر الحكم الإسلامى بعهود من الضعف بسبب العصبية التى طغت على بعضهم، واشتعلت الحروب، وقامت الصراعات تارة بين العرب، كما جرى بين القيسية واليمنية، وتارة بين العرب والبربر، كما قامت الثورات بسبب الظلم والعنصرية ووجود الطبقية فى المجتمع، خلافًا لتعاليم ديننا الحنيف، ولئن كانت المصالح الشخصية هى السبب الحقيقى وراء الكثير من تلك الصراعات، فإنها غُلّفت بغلاف القبلية أو الانتماء، حتى تقاسمت الأسر القبلية وقادتها البلاد، وحتى غدا لكل مدينة تقريبًا حاكمها المستقل بالحكم، وإن كان اللقب أوسع من مدينته التى يحكمها، وتقسمت البلاد فى عهد دول الطوائف إلى نحو ست وعشرين دولة، فصح فيها قول الشاعر:
مِمَّا يُزَهِّدُنِى فِى أَرْض أَنْدَلُـسٍ *** أَسْمَاءُ مُعْتَمِـدٍ فيهـا وَمُعْتَضِـدِ
أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِى غَيْرِ مَوْضِعِهَا *** كَالْهِرِّ يَحْكِى انْتِفَاخًا صُورَةَ الأَسَدِ
وإن كانت هذه إلماحة سريعة عن الوضع السياسى، فإن الوجود الإسلامى كانت له آثاره العظيمة على الحضارة الإنسانية فى مختلف الميادين، والتى كانت قاعدة أساسية، ومنطلقًا للنهضة فى أوروبا، وذلك بفعل عوامل متعددة، ولا تزال آثار الحكم الإسلامى موجودة إلى اليوم، شاهدة على تلك الحضارة وآثارها.
استمر حكم المسلمين بالرغم من وجود فترات من الضعف كانت كفيلة بزوال ملكهم، ومن الأسباب التى أدت لهذا البقاء هو نصرة المسلمين فى المغرب لإخوانهم فى الأندلس، فكانوا سندًا لهم فى كل أزمة أو نازلة، ولم ينتهِ الوجود الإسلامى فى الأندلس إلا بعد أن سيطر النصارى على مدن السواحل الجنوبية التى كانت حلقة الوصل بين المسلمين، وعندها انقطع المدد الإسلامى، ولما ضعف المدد من الأرض، جاء المدد من السماء؛ فلطالما كان الثلج حائلاً بين الطرفين، ولما حوصرت بسطة سنة 894 هـ/ 1489م، قُتل من جنود النصارى أكثر من عشرين ألفًا، ثلاثة آلاف فقط بالقتال، والبقية بمرض حلّ بهم، «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ»، المدثر: 31.
وللحديث بقيه غدًا إن شاء الله.