هل فقدت «الأوقاف» السيطرة على المساجد؟.. ليلة عيد الفطر، وبعد أن فرغ المصلون من أداء صلاة العشاء، وقف أمام المسجد ليتحدث للمصلين، وتوقع الجميع أن يتركز الدرس أو الحديث على حث الحضور على الاستفادة من العيد لمواصلة ذى الرحم وإنهاء الخلافات، وألا تقتصر علاقة العبد بربه على شهر رمضان فقط، وغيرها من الأمور الحميدة التى عادة ما يكون الحديث عنها فى الأعياد والمناسبات الدينية أمر مستحبا، لكن الإمام اتخذ اتجاها آخر، وراح يحذر المصلين من السماح لبناتهم بالخروج «متبرجات» فى العيد، أو أن تخرج إحداهن متعطرة، حتى لا يصيبها حكم المرأة «الزانية»، وانتهت الخطبة على ذلك.
تحدث الخطيب عن التبرج وعطر المرأة فقط، فقلت لنفسى، إن الأمر قد يكون عاديا، والإمام رأى أن التبرج بين البنات وصل إلى درجة لا تطاق وأنه من الأفضل أن يحث الرجال على ضبط ملابس بناتهم، لكن بعد نقاش مع بعض الأصدقاء اكتشفت أن هذا الدرس ليس سوى نموذج لما وصل إليه حال من يتولون الخطابة، فهناك تيار «سلفى» يسيطر على عدد ليس بقليل من مساجد الصعيد، ومن بينها محافظة المنيا التى أنتمى لها، وأن عددا من الأئمة وخطباء المساجد يتناولون فى خطبهم الفكر السلفى فقط، وتحدث أحد الأصدقاء وقال إن الخلاف السلفى الأزهرى حول قيمة زكاة عيد الفطر، وكيفية إخراجها كانت مسيطرة على المساجد قبل نهاية شهر رمضان، فالمنتمون للتيار السلفى مازالوا متمسكين بالنص الذى يقول بعدم جواز إخراج زكاة الفطر مالا، رغم صدور بيان من الأزهر ودار الإفتاء يؤكدان فيه جواز إخراج زكاة الفطر مالا، وكذلك جواز إخراجها حبوبا، بل أكدوا أن إخراجها مالا يعد الأفضل كى يستطيع الفقراء شراء احتياجاتهم.
القضية بالنسبة لى لا تتعلق بإمام أو خطيب أو تيار معين، وإنما فى محاولة فرض وجهة نظر واحدة على العامة، مستغلين فى ذلك منابر المساجد، فرغم المجهود الذى قامت ولاتزال تقوم به وزارة الأوقاف لمواجهة التيارات المتشددة ومنعها من السيطرة على المساجد، فإن هناك من الأئمة والخطباء المتشبعين بالفكر السلفى والإخوانى أيضا، لكنهم يحاولون إظهار عكس ذلك ليستمروا فى الخطابة على المنابر، لكن فكرهم يطغى عليهم فى مواقف كثيرة مثل الوقائع التى تحدثت عنها قبل ذلك.
الغريب أن وجود أئمة متشبعين بالفكر السلفى أو الإخوانى ليس بالأمر الجديد على أبناء الصعيد، لأنهم على دراية تامة بالتوجهات الفكرية لرجال الدين، لكنهم لا يتحدثون عنها منعا للإحراج، لأسباب أسرية أو عائلية، وقد تحدثت مع كثيرين خلال زيارتى الأخيرة للمنيا، منهم مسلمون ومسيحيون أيضا عن ظاهرة التشدد التى عادت مرة أخرى لقرى المنيا، رغم الهدوء الذى كان سائدا، واتفق الجميع على أن السبب فى ذلك هو عودة الفكر المتشدد مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس للمسجد فقط وإنما للكنيسة أيضا، من خلال بعض القساوسة المتشددين، والمفاجأة بالنسبة لى أنى سمعت هذا الحديث من إخوة مسيحيين يشتكون من قساوسة متشددين تسببوا فى أزمات داخل القرى المسؤولين عنها.
المحصلة النهائية أننا أمام أزمة ليست بسيطة، وتحتاج إلى يقظة أولاً من وزارة الأوقاف التى عليها أن تعيد تقييم الأئمة والخطباء فى قرى الصعيد وتحديدا محافظة المنيا، وكذلك فإن على الأزهر مسؤولية مجتمعية ودينية فى غاية الأهمية، فالحصول على الشهادة الأزهرية ليست البوابة الوحيدة التى يمر من خلالها الأئمة وخطباء المساجد، وإنما يجب أن يكون هناك تفكير فى دورات تدريبية لصقل موهبة الخطابة والتفقه فى الدين، لأن الخطابة مسؤولية عظيمة يجب ألا تترك فى يد هواة أو متشددين.
وبالتوازى مع ذلك فإن الكنيسة عليها أن تستمتع للشكاوى التى ترد إليها من تشدد وتصرفات بعض القساوسة، ممن تسببوا فى أزمات كان يمكن تفاديها لو تعاملوا بنفس المنطق والطريقة التى يتعامل بها البابا تواضروس.
القضية لا يمكن معالجتها بطريقة أمنية، وإنما بإعادة تقييم المتصدين للخطابة والإفتاء للناس، ومحاولة إرشادهم إلى الطرق الصحيحة لتوصيل مفهوم التسامح فى الدين إلى المواطنين، والبعد عن التشدد، وهذه مسؤولية فى غاية الأهمية، وعلى المؤسسات الدينية فى مصر أن تضطلع بها، قبل أن نصل إلى الصدام الذى يراهن عليه البعض.