تغييرات كبيرة تشهدها الحالة الدولية في المرحلة الراهنة، ربما لا تقتصر على مجرد التحول نحو التعددية، بعد أكثر من 3 عقود من الهيمنة الأمريكية الأحادية، جراء صعود قوى دولية، أثبتت قدرتها على مزاحمة الولايات المتحدة على عرش النظام الدولي، وإنما امتدت إلى التغيير الكبير في المفاهيم السائدة، سواء على مستوى السياسات التي تتبناها الدول في الداخل، أو فيما يتعلق بعلاقاتها الدولية، وهو ما يبدو في اختلاف شكل التحالفات الدولية، والتي شهدت انقسامات عنيفة، في السنوات الماضية، وهو ما يبدو على سبيل المثال في المشهد الغربي الحالي، والذى تحول تماما عن حالة "الإجماع" حول المواقف الدولية، والتي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بين الولايات المتحدة وأوروبا، جراء حالة من تعارض المصالح التي طفت على السطح في السنوات الماضية.
مفهوم "التحالفات"، في جوهره، بات مختلفا إلى حد بعيد، فأصبحت أضيق نطاقا، عبر التركيز على مجالات بعينها، منها على سبيل المثال، الموقف الغربي من روسيا، فهناك "شراكة" واضحة فيما يتعلق بدعم أوكرانيا والوقوف أمام العملية العسكرية الروسية، بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة، إلا أن ثمة خلافات، سواء داخل أوروبا نفسها من جانب، أو بين دول القارة الرئيسية والولايات المتحدة، من جانب أخر، حول العقوبات وجدواها، ناهيك عن فكرة التخلي عن الغاز الروسي، في ظل توقعات بأزمة كبيرة في مجال الطاقة، وكذلك مسائل إمداد كييف بالأسلحة، وغيرها من القضايا، ربما أبرزها مسائل التجارة والعلاقة مع الصين وغيرها.
الانتقال من فكرة "التحالف" الكامل والقائم على توحيد المواقف تجاه كافة القضايا الدولية والإقليمية بين مجموعة من الدول، إلى "الشراكة" فيما يتعلق بقضايا محدودة، وأوجه معينة للتعاون، يتخلله في الوقت نفسه انتقالا أخر من حالة "الإجماع" إلى "التوافق"، وهو ما يبدو واضحا على المستوى الدولي، فيما يتعلق بموقف المعسكر الغربي الداعم لأوكرانيا، إلا أن الخلافات قائمة حول كيفية التعامل مع الأزمة، وبعض التفاصيل المتعلقة بها، وهو ما يدفع أعضاء المعسكر الواحد للبحث عن حلول من شأنها الوصول إلى أرضية مشتركة، عبر مختلف الوسائل التفاوضية، وأحيانا عن طريق الضغوط السياسية المعتادة.
وهنا أصبح مفهوم "الشراكة" بديلا شرعيا لـ"التحالف" بصورته التقليدية، بينما تحولت حالة "الإجماع" حول مواقف معينة أو قيادة دولية بعينها، نحو التوافق، وهو ما يمثل حالة عالمية، ربما كانت الدولة المصرية سباقة إلى حد كبير في إرسائها، مع ميلاد "جمهوريتها الجديدة"، في 2014، عبر التوسع في علاقاتها على المستوى الدولي، بحيث تتجاوز النطاق التقليدي الذي ساد الدبلوماسية المصرية لعقود طويلة، من خلال الدوران في فلك حليف واحد، لتتحول بأريحية نحو تنويع شراكاتها الدولية، وبل وتنوع موضوعات الشراكة، بين الغاز، على غرار الشراكة مع اليونان وقبرص، والتي وضعت لبنة لكيان أكبر وهو منتدى غاز شرق المتوسط، ناهيك عن الشراكات الصناعية والسياسية والأمنية، وغيرها، والتي ترتكز على مجال أو مجالات محدودة، لكنها في الوقت نفسه تخدم المصالح العليا للدول الأطراف بها، بالإضافة إلى كونها نواة لتوسيع تلك الشراكات، سواء من حيث أعضائها، أو من حيث نطاق موضوعاتها.
إرساء مفهوم "الشراكة"، القائم على "التوافق"، لا يقتصر على العلاقات الدولية، وإنما يمتد إلى الداخل، عبر إشراك كافة فئات المجتمع، سواء أحزاب سياسية أو الشباب أو المرأة أو منظمات المجتمع المدني وحتى رجل الشارع العادي، في بوتقة الحوار الوطني، والذي جاء بعد سلسلة طويلة من الحوار الذي أجرته الدولة المصرية، مع كافة الفئات بشكل منفرد، لتحقيق أكبر قدر من التوافق، فيما يتعلق بكافة القضايا التي تمثل أولوية للمواطن المصري، في ظل أزمات متلاحقة.
واقعية مفهوم "الشراكة"، القائم على التوافق، بين مختلف أطراف الحياة السياسية، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، تقوم في الأساس على احترام الخلافات، والتي تبقى أحد أهم أساسيات السياسة، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، بعيدا عن حالة من الهروب من الواقع، التي تتكشف ولو بعد حين، بينما يصبح التطبيق الصحيح لتلك المفاهيم أساسا لإذابة الخلافات أو تنحيتها، عبر تعظيم المصالح المشتركة، وهو ما يصب في الأساس في صالح القضايا الأساسية سواء للمجتمع الدولي أو الداخلي.