طوال الثمانينات والتسعينات كانت البرازيل تعاني من أزمات اقتصادية متلاحقة وطاحنة كانت نتيجتها تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين، و الغاء الدعم ... وانهار الاقتصاد البرازيلي ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، وفرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية
ورغم استجابة البرازيل لكل الشروط ، تفاقمت الأزمة أكثر فأكثر ، وأصبح 1% فقط من البرازيليين يحصلون على نصف الدخل القومي وهبط ملايين المواطنين تحت خط الفقر ، الأمر الذي دفع قادة البرازيل إلى الاقتراض مرة أخرى بواقع 5 مليارات دولار ، في محاولة للخروج من الأزمة.
الا أن الأوضاع تدهورت أكثر ، وأصبحت البرازيل الدولة الأكثر فسادا، وطردا للمهاجرين و الأكبر في معدل الجريمة وتعاطي المخدرات وصاحبة المعدلات الأعلى في الديون.
الدين العام للبرازيل تضاعف 9 مرات في 12 عاما ، حتى هدد الدائنون الدوليون بإعلان إفلاس البرازيل إذا لم تسدد فوائد القروض ، ورفض إقراضها أى مبلغ في نهاية 2002 ...وانهارت العملة وبلغ سعر الدولار الى 11 الف كروزيرو وهى العملة البرازيلية قبل أن تصبح الريال عام 94
خلاصة الأمر أن البرازيل كانت دولة تحتضر حتى جاء عام 2003 لتبدأ قصة النهوض .. لكن كيف حصل ذلك..؟
تلخيص مأساة الأزمة وملحمة النهضة والعبور من الازمة تضمنها كتاب أصدرته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة -الفاو- عن التجربة الملهمة والاستثنائية للبرازيل بعد انتخاب الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بعنوان " الجوع صفر" في العام 2012 وترجمه البروفيسور السوداني الدكتور محمد عبد الله الريح، هو أستاذ جامعي سابق، وعالم معروف في مجال علم الحيوان، ومهتم بقضايا البيئة، وعمل بمتحف السودان للتاريخ الطبيعي منذ تخرجه في العام 1964 وحتى العام 1983
في عام 2003 تم انتخاب الرئيس البرازيل دي سيلفا – ولد في أكتوبر 1945- ليقود حلم النهضة من خلال الخطة الذي رسمها والمتمثلة في النهوض باقتصاد البرازيل وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحديث الجيش.
القصة تستحق أن يعاد قراءتها ..فقد قدم دا سيلفا العديد من برامج الإصلاح الاجتماعي لحل مشاكل كالفقر، من خلال إيقاف عمليات تصنيع الأسلحة، وقد لعب دورا هاما في تطور العلاقات الدولية، بما في ذلك البرنامج النووي لإيران ومشكلة الاحتباس الحراري. ووصف بأنه «رجل صاحب طموحات وأفكار جريئة من أجل تحقيق توازن القوى بين الأمم».
سيلفا الذى ولد فقيرا ، وعانى من الجوع ، كان يعمل ماسح أحذية لفترة طويلة في شوارع ساو باولو، وكصبي في محطة وقود، ثم حرفي في ورشة، وبعد ذلك ميكانيكي لإصلاح السيارات، وبائع خضروات انضم دا سيلفا إلى نقابة عمالية بهدف تحسين أوضاع العمال. استطاع أن يحتل منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد ثم رئيسا لها عام 78 وأسس حزب العمال اليساري وبدأ في طريق الصعود السياسي حتى أصبح رئيسا للبرازيل.
في لحظة تولي الحكم أبدى رجال الأعمال تخوفهم منه وتعالت أصوات الفقراء بأنه جاء ليسرق ليعوض الحرمان الذي عاشه
لولا دا سيلفا لم يؤمم ولم يسرق وقال كلمته الشهيرة :"التقشف ليس أن أفقر الجميع بل هو أن تستغنى الدولة عن كثير من الرفاهيات لدعم الفقراء "
وقال :" لا بد أن نعتمد على أنفسنا وبسواعد أهلنا فاللجوء الى الآخر سيدمر بلداننا"
وقرر وضع بند في الموازنة العامة للدولة أسماه " الإعانات الاجتماعية المباشرة " وقيمته 0.5% من الناتج القومي الإجمالي للدولة .ويصرف بصورة رواتب مالية مباشرة للأسر الفقيرة .يعنى بدل الدعم العيني بدعم نقدي. هذا الدعم كان يدفع الى 11 مليون أسرة ، تشمل 64 مليون برازيلي وقيمته 735 دولارا
وكان السؤال ....من أين يأتي لولا بالأموال والبرازيل تبدو مفلسة...؟
اتخذ دا سيلفا قرارا برفع الضرائب على الجميع ماعدا المدعومين ببرنامج الإعانات
يعنى رفع الضرائب على رجال الأعمال والفئات الغنية من الشعب البرازيلي
هل وافق رجال الأعمال على ذلك ...؟
الإجابة قد تدهشك...نعم وكانوا سعداء، لأن سيلفا دا لولا منحهم " تسهيلات " كبيرة في الاستثمار وآلية تشغيل وتسيير أعمالهم ... ومنح الاراضي مجانا وتسهيل التراخيص وإعطاء قروض بفوائد صغيرة .. ساعدتهم في فتح أسواق جديدة ، بالإضافة إلى أن دخل الفقراء سوف يرتفع ، وتزيد عملية شراء منتجات رجال الاعمال فتضاعف حجم مبيعاتهم ... لذلك لم يشعروا انها "جباية" ...بل يدفعون ضرائب مقابل "تسهيلات" و أصبحوا يكسبون اكتر منها .
بعد 3 سنين فقط عاد 2 مليون مهاجر برازيلي بأموالهم وودائعهم وجاء معهم 1.5 مليون أجنبي للاستثمار والحياة في البرازيل
في 4 سنوات فقط وهي المدة الرئاسية الأولى للرئيس دا سيلفا سدد كل مديونية صندوق النقد، بل أن الصندوق اقترض من البرازيل 14 مليار دولار اثناء الأزمة العقارية العالمية فى 2008 ، أى بعد 5 سنين فقط من حكم "لولا دا سيلفا"
النهضة البرازيلية جاءت بفضل تركيز "دا سيلفا" على 4 أمور هي الصناعة و التعدين والزراعة و التعليم
البرازيل أصبحت تصنع الطائرات الامبريار ... ودشنت أول غواصة نووية من بين 5 دول فقط فى العالم تصنع غواصات نووية هي امريكا - روسيا - الصين - بريطانيا فرنسا ...أول غواصة كانت بالتعاون مع فرنسا ... ودشنت الغواصة الثانية فى 2020 والثالثة فى 2022 بصناعة برازيلية خالصة
أعيد انتخابه سنة 2006 وبعد انتهاء ولايتي حكمه في 2011 وبعد كل هذه الإنجازات الحقيقية، طلب منه الشعب أن يستمر و يعدل الدستور ... رفض بشدة وقال كلمته الشهيرة :
"البرازيل ستنجب مليون لولا... ولكنها تملك دستورا واحدا ".
و قرر ترك الحكم . اختير كشخصية العام في 2009 من قبل صحيفة لوموند الفرنسية، وصنف بعد ذلك في السنة التالية -حسب مجلة التايم الأمريكية- الزعيم الأكثر تأثيرا في العالم. كما لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم.
المفارقة العجيبة والغريبة وعلى الرغم مما فعله " لولا "في البرازيل الا ان ذلك لم يشفع له عندما أصدر القضاء البرازيلي حكما عليه بالسجن مدته 9 سنوات وستة أشهر بتهمة الفساد وغسل الأموال في يوليو 2017 .وفي 9 نوفمبر 2019 خرج دا سيلفا من السجن بعد ما ان أطلق سراحه وكان قد قضى فيه أكثر من عام ونصف العام. ولم تنخفض شعبيته بل زادت بنسبة كبيرة احتراما له ولتاريخه ولإنجازاته.
النهوض من التخلف ليس مستحيلا .وعندما تتوافر "الإرادة" و"الإدارة" تصنع المعجزات. الصناعة والزراعة وجودة التعليم وبرامج الحماية الاجتماعية هي مفتاح السر في هذا النهوض وهو ما تقوم به مصر حاليا.