وكما ذكرت فى المقالات السابقة ضمن سلسلة مكارم الأخلاق أنها قد عرفها الإنسان وتحلى بها شيئاً فشيئاً، منذ بداية استقراره على ضفاف النيل، وبعد أن ظهرت المعاملات بين البشر على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، وكانت الأخلاقيات المكتسبة والمكتشفة هى المنظم الذى يحكم تلك العلاقات ويقويها ويرسخها، لتتوارثها أجيال تليها أجيال، قبل نزول الديانات السماوية التى شرعت وبلورت ورسخت تلك الأخلاقيات.
وبما أننا فى زمن نحتاج فيه ترسيخ قيمة العدل، سنتوقف اليوم عند فضيلة العدل بين الناس والتى هى من أهم وأعظم القيم الأخلاقية، إذ إنها صفة من صفات الله عز وجل (العدل).
فقد قال سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء:85]. ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 90].
وعن العدل {بالكتاب المقدس}: "عادل أنت أيها الرب وجميع احكامك مستقيمة وطرقك كلها رحمة وحق وحكم" (سفر طوبيا 3:
"يَا رَبُّ، اسْمَعْ صَلاَتِى، وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ استجِبْ لِى، بِعَدْلِكَ" (سفر المزامير 143: 1)
فالعدل لا يقتصر فقط على القضاء وأحكامه، ولا يتحمل أمانته ونزاهته طائفة القضاة الذين يحكمون بين الناس فى مجالس وقاعات المحاكم فحسب، ولكن كلمة العدل أشمل وأوسع.. فالعدل بين الأب وأبنائه، وبين الزوج وزوجته، وبين الحاكم والمحكوم "العدل أساس الملك".
والأب العادل هو الذى لا يفرق بين أبنائه، ولا يزكى أحدهم على الآخر لأى سبب كان. والزوج العادل هو الذى إن كانت له أكثر من زوجه استطاع أن يساوى بينهن، ولا يميز إحداهن على الأخرى كما قال الله فى كتابه العزيز "وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة". وقد أكد المولى عز وجل صعوبة بل استحالة القدرة على العدل فى هذه الحالة فقال "ولن تعدلوا".
وصاحب العمل العادل هو الذى لا يبخس العامل أو المستخدم حقه، ولا يجور عليه ويثقل كاهله بقدر أكبر مما يتقاضاه من مقابل مادي. لذلك نجد أن" قوانين الماعت الـ42" شريعة أمة فجر الضمير (مصر) قد كُتبت على لسان أرواح الموتى الذين انتقلوا الى العالم الآخر , وهم يقفون فى قاعة الماعت (العدل) يوم الحساب. أى أن تلك القوانين لم تفرض على الانسان من الخارج، وإنما هى نابعة من داخله.
لأن بداخله الضمير.. جوهر الفضيلة.. وما عليه سوى تفعيل الضمير.. وهذا ما فعله قدماء المصريين.. أمة فجر الضمير.
وقد ظهرت شكاوى "الفلاح الفصيح" فى عصر الدولة الوسطى، العصر الذهبى للأدب المصرى القديم، الذى قدم للإنسانية نصين من أروع النصوص الأدبية العالمية، وهما شكاوى الفلاح الفصيح، ورواية سنوحى المصرى.
فقد رفع الفلاح الفصيح شكواه الى رئيس البلاط فى "تسع مرافعات"، عندما تعرض للنهب من أحد كبار رجال الدولة.
لم يكن هدف الفلاح الفصيح من مرافعاته التسعة هو الحصول على ما سُلب منه، ولكن الهدف كان تطبيق القانون على الموظف الجشع الذى سلبه ممتلكاته، إذ أن إقامة العدل وإرساء دولة القانون كان هو الهدف من تلك القصة ومن مرافعات الفلاح الفصيح البليغة.
وبما أن الحاكم كان هو المسئول عن إقامة الماعت فى الأرض، فها هو الفلاح الفصيح يقول لرئيس البلاط:
لا تقل الكذب إنك الميزان.
لا تخطئ لأنك الصواب.
انظر.. أنت والميزان واحد، يميل بميلك.
لا تنحرف عن الطريق المستقيم، وعاقب السارق، فهذا الجشع ليس عظيما.
وليكن لسانك المؤشر المستقيم للميزان
والمثقال قلبك
وشفتاك ذراعى كفتاه
عندما تتجاهل المعتدى، من يقاوم الشر إذن؟
ومن الحضارة الفرعونية إلى الحضارة البابلية فيما يخص فضيلة العدل نجد "شريعة حمورابى أو قوانين حمورابي" والتى يبلغ عددها 282 مادة قانونية سجلها الملك حمورابى سادس ملوك بابل على مسلة كبيرة أسطوانية الشكل توضح قوانين وسنن وعقوبات من يخترق القانون.
وقد ركزت على السرقة، والزراعة ورعاية الأغنام، وإتلاف الممتلكات، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحقوق العبيد، والقتل، والموت، والإصابات وتختلف العقوبات على حسب الطبقة التى ينحدر منها المنتهك لإحدى القوانين والضحية. ولا تقبل تلك القوانين الاعتذار أو توضيح الأخطاء إذا ما وقعت.
نهاية:
أعزائى، فالعدل هو الاعتدال والحق والمنطق والخير والصلاح، فإذا انتشر العدل بين الناس اعتدلوا واستقاموا وتصالحوا مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، وتلاشت الأحقاد، وبالتالى اختفت السرقة والقتل والنصب والاحتيال، فعندما يشفى الإنسان من مرض الشعور بالظلم ونقصان العدل يصِح وتلتئم جراح نفسه وتختفى أدرانها الخبيثة التى تستفحل وتتشعب بداخله عندما يتحول إلى شخص مظلوم قليل الحيلة لا حول له ولا قوة.
وخير ختام للحديث عن قيمة العدل كلمات النبى الكريم صلوات الله وسلامه عليه: عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعلون فى حكمهم وأهليهم وما ولوا )) رواه مسلم.
إلى لقاء مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق.