مع كل الأزمات التاريخية التي يعاني منها سوق السيارات، على مدار السنوات الماضية، خاصة تلك المتعلقة بـ الارتفاعات غير مبررة في الأسعار عن بلد المنشأ، حتى العيوب والمشكلات الفنية، إلا أن الوقت الراهن لا نبالغ عندما نقول إن هذه السوق أصابها الجنون، بعدما شهدت أسعارها طفرات غير مسبوقة، تحت زعم وقف واردات السيارات من الخارج، وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، ومشكلة نقص الرقائق الإلكترونية، بالإضافة إلى الأعباء الجمركية والضريبية، التي يتم تحميلها على أي سيارة قادمة من الخارج.
المشكلة في تجارة السيارات والمعارض ليست فقط الأوفر برايس، أو نقص المعروض، والمنافسة بين التوكيلات، لكني أراها صريحة في ظاهرة "الدولار الدهني" وهذا تعبير أستمدة من المرض المعروف بـ الكبد الدهني، متضخم وحجمه يفوق الطبيعي، مع العلم أنه أقل كفاءة وقدرة، وقد يصل بالمريض في نهاية الأمر إلى التليف الكامل أو المرض المزمن، لذلك مهم جداً أن يعرف المستهلك بنفسه حقيقة الأمر وكيف تجري عملية تسعير السيارات في الوقت الراهن، بأسعار تزيد نحو 35% عن تلك المعلنة، وهذه جريمة بكل المقاييس، يساهم فيها المستهلك، الذى يقبل بهذه الأسعار المضللة، ويعطيها مصداقية، ويحرك دوافع الغير نحو الشراء.
المكاسب في سوق السيارات كبيرة وخيالية، قد تكون أكبر من سعر السيارة ذاتها، ويتم تقسيمها بين سلسلة الوسطاء والوكلاء، حتى تصل إلى المستهلك، الذي يظن أن الأسعار سوف تستمر في منحني الصعود، وعمليات البيع والشراء ستظل في ذروتها دون تأثر من تباطؤ أو ركود، لكن هيهات، فالتقارير الدولية تؤكد أن التضخم سيصل مبتغاه مع نهاية العام الجاري، لتبدأ معركة الركود مع العام الجديد 2023، التي تعتبر أشد وطأة وأكثر خطورة على الأسواق، وتتصاعد فيها معدلات البطالة وتتقلص خطوط الإنتاج، ويفقد الاقتصاد حيويته، وتصبح دورة النمو ثقيلة ومتباطئة.
الأزمة في سوق السيارات لا ترتبط فقط بالموديلات الحديثة، لكنها تلقي بظلالها على المستعمل، الذى صارت أسعاره مبالغ فيها بطريقة ساخرة ومضحكة وهزلية، لذلك أتابع دائماً فيديوهات على "فيس بوك" أو "يوتيوب" لأشخاص يعرضون سيارات موديل 1989، أي أنها تعمل منذ 33 عاماً، ويطلبون مبالغ من 60 إلى 70 ألف جنيه، مع العلم أن هذه السيارة لا تتمتع بأي مزايا، ومعروفة لدى جموع المصريين بإمكانياتها المتواضعة جداً، فقد كانت قبل عامين فقط تباع بـ 10 آلاف جنيه للحالة الممتازة، وهذا أمر يدعو للتعجب، فكيف يأمن مستهلك على أمواله في سيارة تجاوزها الزمن وأكلها الصدأ!
المشكلة أن الكثير من المستهلكين يلجأون لاستثمار أموالهم خلال هذه الفترة في سيارات مستعملة من العينة التي ذكرتها في السطور السابقة، ويستسلمون لعبارات تجار السيارات، الذين يملأون الأسواق في أغلب المحافظات، ويتحدثون على "مقاس دهان الفابريكا"، وحالة السيارة من الداخل والخارج، ولأ أعرف أي فابريكا لسيارة تعمل منذ 30 أو 40 عاماً، في الأغلب خرجت من الخدمة في بلد المنشأ ومكانها الطبيعي الآن مصانع الخردة أو مدافن السيارات العملاقة.
أزمة سوق السيارات لا ترتبط بالرقابة وحدها أو الإجراءات الصارمة على حركة البيع والشراء، ومحاصرة الأوفر برايس وتوقيع المخالفات على المتجاوزين للقرارات الحكومية، وفتح الباب للمستوردين على مصراعيه، لكنها تبدأ من المستهلك، الذى يجب أن يعرف حقيقة ما يشتري، ومدى الحاجة الفعلية لاقتناء سيارة، والتكلفة الفعلية التي ستترتب على هذا الاقتناء، فمن هذه النقاط يمكنه أن يحدد أولوياته في شراء سيارة من عدمه، وإذا تراجع عن قراره أو أجله لحين انضباط الأسواق، قطعاً سينتج عن هذا أسعار مناسبة، أو ربما عادلة خلال وقت قريب.