رغم مدخلات الحياة المتعددة، وظهور الانترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات، إلا أن الصعيد مازال يحتفظ بقيمه، ويحافظ على هويته، لا سيما في اللغة والفنون الشعبية الأصيلة المتعارف عليها، خاصة الشعر، الذي يحفظه أبناء الجنوب، ويجيدون نظمه، فهم أرباب الفصاحة وملوك البيان.
ورغم ظروف الحياة وعجلتها سريعة الدوران، إلا أن "بيوت الثقافة" في الصعيد، مازالت تؤدي دورها باقتدار، وتشكل وعي المجتمع، وترسخ للقيم النبيلة، فتنظم مهرجانات الشعر وتقيم الأمسيات، وتستضيف الأدباء والمثقفين، فيعلون من قيم المجتمع ورُقية.
ما أقوله لك هنا، ليس حديثا يُفترى، ولكنها حقائق رصينة، تتحقق على أرض الواقع، على سبيل المثال، ما يقوم به "بيت ثقافة شطورة" التابع لوزارة الثقافة، في أحضان الصعيد، من جهود رائعة تشكل الوعي المجتمعي.
اللافت للانتباه، هذا المهرجان الرائع لشعراء "فن الواو" الذي أقيم بقرية شطورة بمحافظة سوهاج، بحضور عددا من شعراء الجنوب يمثلون "فن الواو"، تحت رعاية الدكتورة نيفين الكيلاني وزير الثقافة، والفنان هشام عطوة رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، وضياء مكاوي رئيس إقليم وسط الصعيد الثقافي، وجلال أبوالدهب مدير فرع ثقافة سوهاج.
هذا المهرجان الراقي قدم وجبة رائعة من الفنوان الشعبية والاستعراضية، من خلال مجموعة من الفقرات الفنية التي نالت إعجاب واستحسان الجميع، فضلا عن تقديم أمسية شعرية تخللتها العزف على الربابة، شارك فيها مجموعة من الشعراء، فيما دارت حلقة نقاشية بعنوان " فن الواو الراهن والمستقبل "، شارك فيها مجموعة من الباحثين والشعراء، تناولت تاريخ فن الواو وأصوله في صعيد مصر.
هذا المهرجان الرائع، أعاد للأذهان قيمة "فن الواو"، فهو من الفنون الشعبية المنتشرة في صعيد مصر، يتميز بنظم الشعر الذي يسمى مربعات، ويستخدم اللغة الشعبية وعادة ما يصاحبه عزف موسيقي على الربابة، ومعظم مربعات فن الواو لشعراء مجهولون وتتداول شفهياً.
الرائع في الأمر أن "فن الواو" يستمد أهميته من كونه فنا شفاهيا، يتوارثه الشعراء عن الأسلاف، كنمط تعبيري، ويجددون في طرائقه وأشكاله، مع الحفاظ على قالبه الفني، وسمي بهذا الاسم لكثرة واوات العطف به، كما يعتمد اللغة الشعبية كأداة للتشكيل الفني مع الإيقاع الموسيقي المحدد، وانتشر فن الواو في صعيد مصر، وازدهر في عصر المماليك والعثمانيين، وكان كثيرا ما يلجأ إلى التورية والكلام غير المباشر، حتى لا يقع فريسة للرقابة الصارمة التي كانت مفروضة على الأهالي في تلك العصور فكان هذا الفن منحازا للجماهير ضد سيوف الحكام.
و"فن الواو" من الأنواع الشعرية الرائعة، التي تستريح الآذان لسماعها، فمن أمثلته، ما نظمه المتصوف "ابن عروس":
ولابد من يـوم معلــوم .. ترتــد فيـه المظـــالم
أبيض على كل مظلـــوم .. أسـود على كل ظـــــالم
مسكين من يطبخ الفـاس .. ويريد مـرق من حـديــده
مسكين من عاشر النـاس .. ويـريـد من لا يـريـــده
اياك تقول للندل ياعم .. ولو كان على السرج راكب
ما حد خالي من الــهم .. حتى قلوع المــــــراكب