تطورت الأحداث بشكل سريع وملفت للنظر بعد مبادرة الرئيس التركي أردوغان الاعتذارية لروسيا، عن حادث إسقاط الطائرة الروسية سو -24 وقتل قائدها في نوفمبر من العام الماضي، وأيا كان الاعتذار لروسيا أو لذوي الطيار، فإن تطور الأحداث بعدها يعكس اهتماما غير عادي من أنقرة بتحسين العلاقات مع موسكو، والملفت للنظر أيضا ردود الفعل السريعة والإيجابية من الجانب الروسي، وكأن الطرفين حبيبين اختلفا ومنعتهما عزة نفسهما عن العودة لكنهما لم يطيقا الفراق، حيث توالت الأخبار من موسكو متسارعة عن عودة العلاقات والحوار واللقاءات والسائحين الروس والحديث عن عودة خط الغاز الروسي – التركي.. وغيرها، هذا التسارع والهرولة في العودة من الطرفين، جعلت البعض يتصور أن أمورا كثيرة ستحسم، وأن الموقف التركي في سوريا سيتغير، وأن موازين القوى في المنطقة ستتغير، بل إن البعض بالغ في توقعاته وذهب إلى أن روسيا ستخلع تركيا من حلف الناتو.
أيا كان الأمر وما يقال، فإنه من البديهي أن علاقات روسيا وتركيا تشكل أهمية غير عادية بالنسبة للبلدين، بل لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من دولة في الشرق الأوسط تعادل في أهميتها لموسكو أهمية تركيا، ولا حتى إيران، وما من دولة تعادل أهمية روسيا بالنسبة لتركيا، ولا حتى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، والمسألة هنا تمس جميع الجوانب، الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والأمنية والاجتماعية، ولهذا فإن تقارب روسيا وتركيا أو تباعدهما عن بعضهما له بالغ التأثير على موازين القوى الإقليمية والعالمية، وهذا ربما ما يفسر قبول موسكو السريع لاعتذار أردوغان الذي جاء كاملاً ومستوفياً لكل الشروط التي طلبتها موسكو في الاعتذار، بما فيها التعويض.
لكن السؤال الذي يهمنا هنا هو: كيف تمت "صفقة الاعتذار"؟ إذا جازت تسميتها بالصفقة، علما بأنه قيل أن عدة محاولات وساطة للتصالح والتقارب جرت وباءت بالفشل، منها محاولات عربية، قطرية وسعودية، ومحاولات أوروبية صربية وتشيكية وغيرها، والآن يدور الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن أن وساطة إسرائيلية هي التي أثمرت "صفقة الاعتذار"، فقد زار رئيس الوزراء الإسرائيلي موسكو في الحادي عشر من يونيو، وجاء الاعتذار في 27 يونيو، ورغم أن اتفاق التطبيع في العلاقات بين إسرائيل وتركيا جاء مواكبا لهذه الأحداث، إلا أن هذا الأمر ليس ذو أهمية كبيرة، حيث إن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب ليست بحاجة لاتفاق رسمي للتطبيع، فهي جيدة وطبيعية رغم كل الأحداث التي قد تقع بين البلدين، لكن يبدو أنه بعد فشل كل الوساطات بين موسكو وأنقرة، لم تجد تركيا أمامها سوى إسرائيل التي لها مكانة خاصة للغاية لدى كل من روسيا وتركيا، وهي محل ثقة كبيرة من البلدين، كما أنها طرف مؤثر في الأحداث وقادر على الإقناع، وفي نفس الوقت إسرائيل صاحبة مصلحة في التقارب التركي الروسي بحكم علاقتها الطيبة والمتنامية بالطرفين.
أردوغان اعتذر وموسكو قبلت الاعتذار على الفور، وعادت المياه بسرعة لمجاريها، ولم يحتاج الطرفان للقاءات رسمية ولا لجان تصالح ولا خلافه، وهذا يعني أن كلا البلدين، كما قلنا بحاجة ملحة كل منهما للأخر، وربما تكون روسيا الآن بحاجة أكثر لتركيا بسبب الأوضاع في سوريا، وبسبب تراجع فرص نجاح مباحثات جنيف، وأيضا بسبب نوايا واشنطن والناتو نشر منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في أراضي تركيا، وهو الأمر الذي رفضته أنقرة من قبل، لكن ممكن تقبله في ظل الخلافات مع موسكو، إلى جانب مصلحة روسيا في خط الغاز عبر تركيا، وأيضا أهمية تأمين البحر الأسود الذي بات مهددا بدخول سفن الناتو والأساطيل الحربية الأمريكية، وكذلك خطورة تهريب الإرهابيين من تركيا إلى روسيا عبر مناطق شمال القوقاز، كل هذا وغيره يفرض على روسيا ضرورة التصالح والتقارب مع تركيا، وربما هذا ما جعل البعض يعتقد أن موسكو هي التي طلبت من إسرائيل الوساطة في الصلح مع تركيا وأن بوتين هو الذي طلب من نتنياهو إقناع أردوغان بالاعتذار، ويبرر هذا الاعتقاد سرعة موسكو في قبول الاعتذار وعودة العلاقات لما كانت عليه بسرعة ملفتة للنظر وبدون أية إجراءات ولا لقاءات على أية مستويات.
لكن هذا لا يمنع مدى حاجة تركيا الملحة، وربما أكثر بكثير من روسيا، لعودة العلاقات لمجاريها، خاصة بعد العمليات العسكرية الروسية في سوريا والتي تضررت من جرائها تركيا أكبر الضرر، كما أن الدعم الروسي للأكراد بات يشكل قلقاً بالغاً لأنقرة التي تخشى من نمو قوة الأكراد ومقاومتهم، إلى جانب تكرار عمليات التفجيرات الإرهابية في المدن التركية الكبيرة، والتي تثير تساؤلات وجدل كبير حول مصادرها، الأمر الذي يدفع بأنقرة ونظام أردوغان، الذي بات يعاني من مشاكل وأزمات داخلية بين قيادات حزبه "العدالة والتنمية"، إلى أن يفكر في تغيير اتجاهات سياساته الخارجية وبسرعة قبل فوات الآوان.
إذا صح القول بحدوث وساطة إسرائيلية بين تركيا وروسيا، فهل يمكن حدوث مثل هذه الوساطة الإسرائيلية بين تركيا ومصر؟، مع عدم الربط بين هذا السؤال وزيارة وزير الخارجية المصري لإسرائيل، لكني لا أعتقد أن هناك مصلحة لإسرائيل في تحسن العلاقات بين مصر وتركيا، بل خلافاتهما أفضل لها، ولو استطاعت إسرائيل أن تباعد أيضاً بين روسيا ومصر لفعلت بدون تردد، فمصر كانت ومازالت وستظل دائما وللأبد عدواً لإسرائيل، شاءت مصر أم لم تشأ.