على مدار قرون من الزمان كانت وما تزال دولة التلاوة المصرية، الأكثر انتشارا فى العالم كله، لما يميزها من عذوبة الصوت واتقان التلاوة وحسن الحفظ، القائمة على دراسة المقامات والقراءات المختلفة، ورغم آلاف القراء الذين خرجوا من كتاكتيب مصر، لكن يبقى فى الأذهان والتاريخ العديد من قراء القرآن الكريم فى المحروسة الذين اشتهروا بأصواتهم الذهبية واستطاعوا لمس قلوب المستمعين بخشوعهم وقراءتهم المميزة، كالمشايخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوى وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصرى ومحمود على البنا والشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ السيد سعيد وغيرهم فى العصر الذهبى لدولة التلاوة فى القرن الماضى.
ولأن مصر بعادتها وتاريخها وتراثها دائما ولادة فى كافة التخصصات، فما زالت دولة التلاوة بحراسها الجدد، تقدم لنا عباقرة لهم تأثير كبير فى الجمهور داخل وخارج مصر، لما يمتلكوه من حناجر صوتية قوية تصدع بالقرآن الكريم وتلاوة تؤثر القلوب والآذان، ومن بين هؤلاء صوت ملائكى يخطف القلوب والأسماع، ينتظره الجميع عندما يتلو القرآن الكريم، ذلك الصوت الملائكى صوت الشيخ ممدوح إبراهيم عامر الذى أصبح أحد أهم وأبرز قارئ القرآن الكريم فى العالم الإسلامى فى الوقت الحالى.
"فاكهة قراء مصر"، هذا اللقب الذى يشتهر به القارئ ممدوح عامر، ولد عام 1987 بقرية الحلوجة التابعة لمركز أبو المطامير بمحافظة البحيرة، حفظ القرآن فى سن مبكر حتى لقبه أهله وجيرانه وشيوخه فى بدايات حياته بالطفل المعجزة والصوت الملائكى.. فرغم ولادته "كفيف" لكنه قاوم واجتهد بدعم والديه وشيوخه فى القرية والقرى المجاورة حتى خرج قارئا يشار عليه بالبنان.
رزق الله عز وجل والد الشيخ ممدوح بطفلين كفيفين، كان هو أحدهما، فأصيب والده ووالدته وقتها بحالة من اليأس، حتى أتم سن الرابعة، فعرض عليهما أحد مشايخ القرية الحافظ للقرآن الكريم ويدعى الشيخ أبو زيد بسيونى أن يتبناه، فوافق الوالدين دون تردد، حتى كانت المفاجأة الكبرى أن الطفل أكرمه الله بحفظ القرآن الكريم كاملاً وهو فى سن الخامسة والنصف، فلم يتخيل أحد قط أن يحفظ كفيف مثله القرآن الكريم فى هذه الفترة القصيرة، إلا أن إرادة الله شاءت "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ".
رحلة القارئ ممدوح مع تلاوة القرآن في مصر وخارجها لم تكن سهلة على الإطلاق، نظرا لكثير من التحديات والصعوبات التى واجهته هو وأسرته في البدايات، لكن تبقى إرادة الله وحرص والديه وحرصه منذ الطفولة المبكرة على حفظ كتاب الله، سببا فى تفوقه وتألقه في دولة التلاوة المصرية، فما حدث معه فى الصغر ولقاءه بشيخ الأزهر آنذاك فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق رحمة الله عليه ، بحضور 10 من كبار شيوخ الأزهر كانت البداية الحقيقية لميلاد قارئ كبير، خاصة بعد اختبارهم له فى القرآن وسماح شيخ الأزهر له بالإلتحاق بمعهد القراءات رغم صغر سنه ليحقق حلم القارئ الصغير، بل وصل الأمر لاستثناء شيخ الأزهر له بالحاقه مباشرة بالصف الثالث الابتدائى نظرا لتفوقه وحفظ للقرآن الكريم.
48 ساعة من الزمان كانت أهم وأبرز حدث في حياة القارئ ممدوح عامر، لم لا وهى التي قضاها مع الشيخ محمد متولى الشعراوى في فيلته الخاصة بحى الهرم بمحافظة الجيزة، وهو طفلا ليجد حفاوة الاستقبال والكرم وينال خلالها اعجاب وتقدير فضيلة الشيخ الشعراوى به، لدرجة تحدث عنه واشادته به خلال تفسيره لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) وعن قدرات المولى عز وجل فى أن جعل لمثله المقدرة على حفظ القرآن الكريم فى هذا السن المبكرة.. ليؤكد له امام الدعاة أن أى إنسان أخذ حظه فى الدنيا كاملاً 24 قيراط فربما حرمك الله نعمة البصر ولكنه بالتأكيد أعطاك نعمة أكبر وأعظم منها بكثير وهى المقدرة على حفظ القرآن الكريم.
محطات كثيرة تصنع من قراء القرآن الكريم ، نجوم في عالم التلاوة المصرية ، وكان تكريم الشيخ ممدوح عامر فى أوائل التسعينات وهو ابن الـ7 أعوام من الرئيس الأسبق حسنى مبارك لحصوله على المركز الأول على العالم الإسلامى فى حفظ القرآن الكريم فى مسابقة شارك فيها 84 دولة، أحد أبرز المحطات في حياته خاصة بعدما أعجب به "مبارك" ليضعاف له الجائزة ويحقق حلم "الطفل المعجزة" بزيارة والديه بيت الله الحرام.
من أرض المحروسة انطلق الشيخ ممدوح عامر فى تلاوة القرآن الكريم لتكون أول دعوة رسمية له فى مدينة كفر الدوار عام 2000، ومنها لبيروت - لبنان عام 2011 ثم بعدها دولاً كثيرة فى أسيا وأوربا والعالم كله، ليسير على درب مثله الأعلى وأستاذه الذى تتلمذ على يديه ولم يراه الشيخ محمد صديق المنشاوى، الذى تعلم منه الكثير والكثير أهمها الخشوع والتصوير النغمى لمعانى القرآن الكريم، وسلاسة التلاوة والإحساس بمعانى الآيات حتى استطاع أن يوصلها لقلوب المستمعين.
تظل مدرسة التلاوة المصرية تضم العديد من الأسماء البارزة التي تعدت شهرتها حاجز الزمان والمكان.. أصوات من الجنَّة تشدو على الأرض، يمتازون بحلاوة الصوت ووضوح المخارج والتمكن من الأحكام والضوابط، فمصر هي مهد التلاوة، وغالبية مشاهير القراء مصريون علموا العالم الإسلامى أصول و"فن" التلاوة بأصوات عبقرية متفردة، وأرسى العديد منهم أسس التلاوة، وكانت تلاوتهم لآيات القرآن الكريم مثار إبهار وتعظيم لكل من استمع إليهم، واستمد من أصواتهم شغفا لفنون التلاوة والإنشاد الدينى الجميل.. وسيبقى صوت الشيخ القارئ ممدوح عامر واحد من هؤلاء المشاهير.