سقطت ورقة من أوراق الإبداع المصري التي يندر أن يجود الزمان بمثلها خاصة في زمن الشح الأدبي والمعرفي الذي نعيشه حاليا.. فبرحيل الأديب والكاتب الصحفي "سامي فريد" نكون قد فقدنا قامة فنية رفيعة القيمة والقامة ليس علي المستوى الأدبي والصحفي فحسب، بل على المستوى الأخلاقي، فقد تمتع الراحل الكبير بسمو أخلاقي غلب على كل صفاته، فهو علامة بارزة في التواضع الجم على قدر إبداعه في الكتابات الأدبية (الرواية - القصة القصيرة - المسرح - سرد السير الذاتية لشخصيات من قلب الواقع المصري في الأدب والبطولات العسكرية)، وفوق هذا وذاك عرض سيرة الأديب الكبير (يحيى حقي) الذي لازمه لمسافة زمنية تتجاوز ربع قرن من الزمان.
ربما لايعرف الكثيرون (سامي فريد) الأديب الضاحك الذي ترك لنا أكثر من 60 كتابا في مختلف الألوان الأدبية، فضلا عن مئات المقالات في فن الكتابة الساخرة التي استمدها من روح حكايات والدته التي ورث عنها الحكي والحديث العذب الذي لايمله من كان في حضرته سواء في جريدة الأهرام التي عاش جل عمره في دهاليزها سكرتيرا للتحرير الفني (الإخراج الصحفي) وكاتبا متميزا في صفحات الرأي، أومشرفا على عدد من الصفحات المتخصة سواء في الكتابة الفكاهية أو استعراض هموم المواطن المصري البسيط بجكم انتمائه للطبقى الوسطى.
لكني أعرفه بحكم القرب منه لأكثر من 40 عاما بحكم أنه والد زوجتي الدكتورة كرمة سامي رئيس مركز الترجمة والنشر، هو ما أتاح لي فرصة أن أنهل من معينه الأدبي والفني بحكم أنه كان يحمل ذاكرة فنية موسوعية ترجمها في صورة مقالات في مختلف الصحف والمجلات الأهرامية، خاصة عن مظاليم الفن الذين لم ينالوا حظهم من الشهرة، ولأني كنت أحد تلامذته في الإخراج الصحفي، فقد لمست فيه حنو الأب والمعلم، خاصة في طريقة تلقينه دروسا البليغة بالإشارة دون أن ينطق بكلمة واحدة، فحينما كنا نعرض عليه نحن تلاميذه من الشباب الواعد في منتصف ثمانينيات القرن الماضي تصمياتنا للصفحات، كنا نلمس منه ردا دافئا عبر إشارات مصحوبة بالابتسامة العذبة المرسومة على وجهه طوال الوقت نعرف منها إن كنا على صواب أو خطأ.
كان (سامي فريد) يعاملنا نحن الشباب معاملة الأب دون أن يجرح مشاعرنا أو يصدر لنا طاقة سلبية كغيره من أصحاب المدرسة الأهرامية العتيقة في التقاليد الصارمة في الصحافة وفي الإدارة عبر بوابات وحواجز وجسور تمنعنا من الاقتراب من أسوارهم العالية، وحده كان يكسر حاجز المسافات تلك بينه وبين جيلنا من الشباب انطلاقا من ثقة في قدراته، وبحكم أنه أديب تربي في مدرسة (يحيى حقي) النموذج المثالي في الأدب والتأدب والأخلاق الرفعية، وهو ما انعكس في كتاباته عن هذا الأديب "صاحب القنديل" والدبلوماسي رفيع الذوق والمعرفة الذي ملأ الدنيا أدبا وفنا لايضاهي، بل كان نموذجا وحده في كتابة الرواية التي تشع نورا على شاشة السينما.
لقد كان سامي فريد مولعا إلى حد الغرام بأستاذه يحيى حقي وتعود علاقته بصاحب "قنديل أم هاشم" إلى أوائل الستينيات عندما عين سامي فريد بهيئة الاستعلامات في إدارة المجلات بعد رفض تعيينه كمذيع بالتليفزيون، بعد تخرجه من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وظل "سامى فريد" لفترة طويلة بلا عمل لأنه لم يكن يعلم أين تقع بالضبط "إدارة المجلات" إلى أن اكتشف مكانها بالمصادفة، ويومها قالوا له إنه سوف يعمل مع يحيى حقي، الذى سأله عندما التقى به أول مرة إذا كان يحب اللغة العربية فأجابه بنعم فسأله عن مؤهله الدراسى فقال له ليسانس آداب قسم انجليزى؛ وهو ما جعل يحيي حقى يندهش من رده، ثم عاود سؤاله عن الأدباء الذين قرأ لهم فسرد له كل الأسماء الأدبية الموجودة في الساحة ما عدا اسمه هو فضحك وقال "طب وأنا؟"، فقال له سامى فريد: "نعم قرأت رواية قنديل أم هاشم"، مع أنه لم يكن قرأها ولكنه قرأ نقدا عنها فإذا به يسأله عن رأيه في علاقة التعاطف بين المؤلف والبطل فقال له إنه لم يلحظها فاندهش يحيي حقى بشدة؛ وقال له "إن أي رواية لابد وأن يكون هناك تعاطف وعلاقة ما بين البطل والمؤلف.
يقول سامي فريد عن هذا اليوم فى إحدى مقالاته: "المهم أنه يومها أعطانى مفتاح شقة اسمها مجلة "المجلة"، وقال لى تعالى غدا في الحادية عشر صباحا لنبدأ العمل، وكانت هذه هى بداية الحياة الجديدة، وظل مخلصا في حبه واحترامه حتي بعد رحيله، فبحسب نهى حقي، في نعيها له تقول: (كتب أكثر من كتاب في حق أبي ومنها: "يحيي حقي عازف الكلمات، ويحيي حقي الذي أعرفه، وأنا يحيي .. صورة الفنان عن قرب"؛ وطوال حياته التي تمتد إلى 82 عاما لم تفارقه صورة "يحيى حقي" فظل يتحدث عنه ويروي الذكريات الجميله والصحبه والمحبه والاحترام التي تربطهما، وأتي موعده هو أيضا ليرحل ويتركنا لتظل ذكراه العطره تصاحب هذه الشخصيه الكريمة وأعماله الصحفيه والأدبيه، وهكذا كان آخر صديق كريم عمل مع والدي وأعزي نفسي وأسرته وابنته الدكتورة كرمه سامي فريد ، وهو في رحمة الله وفي جنة الفردوس بإذن الله، وإنا لله وإنا اليه راجعون ولاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم والبقاء لله).
من أجمل ماكتب في حق سامي فريد تلك القصة الطريفة التي حكاها لي أكثر من مرة، لكني أترك الكاتب الصحفي الكبير "محمد العزبي" ليرويها بنفسه كما عاصرها وكتبها في كتاب له، حيث يقول: عشت في "صالة تحريرالأهرام" مع الأستاذ "سامي فريد" أتعرف على أسرار بعض ما كان يدور وراء الكواليس، وأحكي لكم تلك القصة التي لا نكاد نصدقها لولا أن كاتبها وهو الاستاذ "سامي فريد" كان شاهدا عليها ومشاركا فيها ؛ وكان هناك شهود آخرون.
عندما جاء الأستاذ "علي أمين" إلى الأهرام ؛ وحان موعد اجتماع "الديسك المركزي" اليومي الذي يدير الحركة الصحفية بالأهرام برئاسة الاستاذ "عبد الحميد سرايا" إذ كان يرأسه الأستاذ هيكل؛ وكانت له تقاليده الراسخة؛ يبدأ في تمام الساعة الخامسة في جو من الهدوء التدريجي حتي ينقطع الصوت تماما في الخامسة ويدخل الأستاذ هيكل من مكتبه إلى باب منتصف الصالة يرافقه الدكتور "عبد الملك عودة" مساعد رئيس التحرير وعميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق ومن خلفهما "منير عساف" مدير مكتب الأستاذ هيكل ويتقدم الدكتور "عودة" ليفتح للأستاذ هيكل الباب فيقوم المجتمعون واقفين حتى يجلس الأستاذ.
في ذلك اليوم - وكان أول اجتماع بدون هيكل - جلس المجتمعون وأغلق باب الصالة لكن الصوت لم ينقطع؛ ومرت دقائق ثم ربع ساعة؛ وتململ الحاضرون.. قال الأستاذ سرايا: ما تقوم يا (سامي فريد) شوف لنا الأستاذ "علي "ما جاش ليه؟!.. نقر علي الباب فلم يسمع ردا.. فتحه فوجد "علي أمين" مستغرقا في الكتابة؛ نسي الاجتماع؛ وقال معلش كنت باكتب شوية أخبار للجرنال؛ ثانية واحدة خدني معاك.. سار أمامه يدله على الطريق بعد أن قال: لسه ما عرفش سكك الأهرام.. لم أسمع خطواته خلفي فالتفت لأجده مرتديا جوربيه فقط؛ ويلبس قميصا نصف كم أبيض وقد انفتح زراره الأعلي فبان شعر صدره الكثيف ونحن في عز الشتاء.
دخل "علي أمين" معتذرا ولم يقف الحاضرون.. قام "سرايا" بتلخيص الأخبار المحلية والعالمية والمقالات والتحقيقات.. قال علي أمين: على فكرة النهاردة "شيرلي تمبل" بتزور مصر.. طبعا فاكرينها.. قال "سرايا" والمطلوب ايه؟ خبر ؛ نعمل خبر .. رد علي أمين: لا .. خبر ايه يا جماعة؛ "نحط لها صورة كبيرة في الصفحة الأولي على تلاته عمود مثلا وتحتها موضوع برضه علي تلاته عمود؛ ويمكن كمان يبقي فيه متابعة على صفحة داخلية .. حاجة تهم الناس يعني".
عند إذن ارتفع صوت الأستاذ "سرايا" بانفعال: "انت جاي تعلمنا الصحافة يا علي!"
ومن حسن حظي أنني عرفت في حياتي الصحفية كثيرين، لكن يبقى راسخا في الذاكرة أستاذي "محمد سامي فريد إسماعيل"، وهذا هو اسمه بالكامل، وله من هذا الاسم حظ كبير، ولذلك عرف باسم "سامي فريد"، وهو بالفعل لعب في حياتي المهنية دورا فريدا، ومنه تعلمت أشياء كثيرة، فهو متعدد الجوانب، والملكات والمواهب، فقد كان سكرتير تحرير فني على درجة عالية من المهارة، أي أنه فنان صاحب خيال مبدع، وكاتب وأديب له العديد من الأعمال الإبداعية، وهو صحفي بمعنىالكلمة، وميزة أخرىمن مميزاته الفريدة، أنه إنسان صاحب قلب طيب، عرف كيف يقود سفينة حياة مجموعة من الشباب، أصبحوا حاليا من كبار الصحفيين والكتاب، طوال رئاسته لقسم سكرتارية التحرير الفنية بجريدة الأهرام.
اكتسب "سامي فريد" ثقة ومحبة أسرة الأهرام، على اختلاف أجيالها، ومستوياتها القيادية والوظيفية، وعمل مع أساتذة الأهرام الكبار، ويكفي أن من ألحقه بالعمل في مؤسسة الأهرام، هو الراحل الكبير "عبد الحميد سرايا" الذي عرف عنه عدم المجاملة والموضوعية في التقييم، وكان قبل أن يأتي إلى الأهرام سكرتيرا لتحرير "المجلة" التي كان يرأس تحريرها الأديب الكبير "يحيي حقي"، وهذه شهادة أخري في حقه، فقد عمل طويلا مع صاحب القنديل، واستضاء في مشواره الإبداعي بقبس من نور موهبة أستاذه، الذي لايزال وفيا له حتي ساعة رحيله، في زمن ندر فيه الوفاء.
كان الراحل العظيم عاشقا للصحافة، ولا يستطيع أن يفارقها؛ حيث كان يكتب صفحة أسبوعية بمجلة "نصف الدنيا" بعنوان "شىء ما" يصور فيها لوحات من الحياة، وكان له عامود أسبوعي في أهرام الخميس "صفحة الأدب" بعنوان "ماذا يبقى؟"، وصفحة بالأهرام المسائي بعنوان "لقاء الأحد" تخرج منها عشرات الصحفيين الذين صاروا نجوما لامعة في الصحافة المصرية، بالإضافة إلى مشاركاته فى العشرات من الندوات الثقافية، وإسهاماته فى الصحف والمجلات العربية والمصرية من مقالات وعروض كتب وكتابات إبداعية وترجمات مختلفة نشرت في "المجلة، سيدتي، الثقافة، القصة، سنابل، الإذاعة والتليفزيون، أكتوبر، الجمهورية، الأهرام)، وغيرها من الصحف العربية مثل "الأقلام العراقية والمعرفة السورية والبيان الكويتية والرواد الليبية"
جدير بالذكر أن الراحل الكبير "سامي فريد" كان عضو اتحاد الكتاب، وعضو نادى القصة، وصدرت له العديد من المؤلفات منها: "حضن الليل، رواية قصيرة 1982، وتأملات على سور حجرى، قصص قصيرة 1984، ورائحة البحر، قصص قصيرة 1987، وأرضي لك، قصص قصيرة، 1992، ويحيى حقى عازف الكلمات 1998، واقفل يا سمسم.. مسرحية للأطفال 1999، والحب والحزن والحنين، قصص قصيرة 2000، وشمال شرق و الرجال لا يعرفون الآه.. لوحات من الأدب الساخر، ويحيى حقى الذى أعرفه 2002، سكن الليل.. قصص قصيرة 2003، ومذكرات زوج سعيد جدا: صور من الأدب الساخر 2004، والحب والحزن والحنين.. قصص قصيرة، الطبعة الثانية 2006، والحكاية وما فيها.. مجموعة قصصية 2008، ونجف بنور: ملامح من السيرة الذاتية 2010، وشمس الحريم.. لوحات قصصية 2010، إضافة إلى ترجمته لرواية "حياة جديدة" من الأدب النيجيرى الحديث، تأليف سيبيريان إكوينزى 1965.. رحمه الله رحمة واسعة.