"ولما كان سطح الأرض دائرياً، فقد استحال على الناس أن ينتشروا انتشاراً لا حدّ له، وكان لا بد من أن يلتقوا..."، هذه المقولة للفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط تُلخص فكرة المعيّة فى عالم مشترك، والارتباط الإنسانى على اختلاف الألسنة والانتماءات، الذى هو لبنة أى اختلاط بين المجتمعات أو اجتماع سياسى.
مُنذ القدم انشغل كُثير من الفلاسفة بمسألة البُعد الإنساني للسياسة، وقدموا رؤى مختلفة فى هذا الصدد، فالبعض منهم رأى أن سياسات الدول تخلو تمامًا من أى بعدٍ إنساني، بينما أكد البعض الآخر أهمية ذلك البُعد فى كل تلك السياسات سواء فى مرحلة التخطيط أو التنفيذ، ولا يزال الأمر مطروحًا للبحث والإضافة، ولكن المؤكد أن كل ما يدور حولنا له جانب أو بُعد إنسانى طالما كان الإنسان بمكوناته طرفًا فيه.
لقد حرصت الدولة المصرية على إضفاء البُعد الإنسانى على جميع القضايا ومنها قضية المُناخ إيمانًا منها بأهميته، فطالما مثل البُعد الإنسانى توجهاً أصيلاً فى مكونات السياسة للدولة المصرية، ويُعد أحد أهم عناصر قوتها الناعمة، فالدعوة للتسامح والسلام والحوار لحل أى قضايا، ونبذ الخلافات ووحدة الشعوب والتضامن الإنسانى لمواجهة أي تحديات ومكافحة التطرف والتغيرات المُناخية هو مبدأ أساسى من مبادئ الدولة المصرية.
لم تكن الدورة السابعة والعشرون لمؤتمر الدول الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة بشأن المناخ (cop27) ، التى ودعتها مدينة شرم الشيخ منذ أيام، فقط قُمة للتباحث حول مصير كوكب الأرض فى ظل ما يتهدده من مخاطر ناجمة عن التلوث بمعدلات فاقت قدرته على التحمل؛ ما فرض حتمية الخروج بآليات موضع التنفيذ وإنجازات حقيقية تسهم فى إنقاذ كوكبنا، لكن كان لـ"Cop27" بُعد آخر على الصعيد الإنسانى، ظهر فى عدة مشاهد، نسرد هنا بعضًا منها..
قد ظهر ذلك البُعد جليًا فى خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام القمة، والذى شدد من خلاله على أهمية إحلال السلام العالمى ونبذ العنف ووقف الحروب والصراعات كركيزة أساسية فى تخفيف معاناة الشعوب، مُبديًا استعداده للدفع بأى جهود لإنهاء الحرب الأوكرانية وإيقافها، حفاظًا على أمن العالم واستقراره وعلى مستقبل الإنسانية، وهو الخطاب الذى حاز إشادات قادة وزعماء العالم، ما دفع بعض الرؤساء لتكرار الدعوة ذاتها فى خطاباتهم أمام القمة.
وظهر البُعد الإنسانى من خلال الدعوة ـ التى تم إطلاقها ضمن فعاليات اليوم الثانى عشر من قمة المناخ ـ لبناء السلام وربطه بقضية مكافحة تغير المناخ وإلقاء الضوء على معاناة البلدان الإفريقية التى تواجه ويلات النزاعات من جهة، ومخاطر التغير المناخى وما ينجم عنه من كوارث طبيعية من جهة ثانية.
وكانت قمة المُناخ أيضًا، بوتقة حقيقية انصهرت فيها شُعوب من جنسيات تنتمى لحوالى 198 دولة، وعلى اختلاف اللغات والألسُن كان المصير المشترك ووحدة الهدف والخوف على الأم الواحدة (الأرض،) دافعًا لاتحادنا فى مواجهة الخطر ذاته وخلق لغة مشتركة بين الـ 66ألف مشارك فى القمة .
لقد سَعدت بأن أكون واحدةً ممن انصهروا فى تلك البوتقة، وكونى مصرية جعلنى هذا أحظى بترحاب خاص ممن التقيت معهم خلال فعاليات القمة خاصة أشقائنا الأفارقة..وجوه تعلوها الابتسامة بمجرد أن تعلم هويتك؛ وتتتسابق الكلمات مع لغةٍ الجسد لتعبر عن الحب والاحترام لبلدك.
ها هى" إستر شيتى" من كينيا تلقننى درسًا عن المحبة الصادقة المجردة وعفوية التعبير عنها، لقتنى ذلك الدرس حينما قررت نزع طوق من الخرز الملون برأسها لتُلبسنى إياه دون تردد وبابتسامة صافية أعطت لملامح وجهها ضوءًا لا يضاهيه ضوء آخر؛ فعلت هذا وهى تصف لى كم أن الأفارقة يضعون ثقتهم فى مصر ويعلقون آمالهم على قوتها ويعتبرونها الأم الجامعة لكل القارة والمدافع الأول عن حقوقهم.
ومن كينيا إلى ناميبا..جمعتنى الصدفة بتلك المرأة الجميلة الذكية التى تُدعى "فريدريكة" كانت ضمن الوفد الرسمى لدولتها بالمؤتمر، وجدتها وقد ضلت طريقها إلى الفندق وهنا كانت لحظة التعارف ليساعدها الله من خلالى لإيصالها إلى مقر إقامتها، ثم نصبح أصدقاء وأتعلم أنا منها كيف تكون الثقة الحقيقية فى الله والصلاة بقوة الرجاء فى الاستجابة دون أدنى شك طالما كانت طلبتنا بعلم اليقين، لأجد أن مناجاة الله لغة أخرى مشتركة بين شعوب العالم.
وبمنطقة البلو زون وتحديدًا بجوار لافتة "Hope lies in actions" المضاءة بالأنوار المبهجة، جمعنى القدر بمحمود أنس، طالب من نيجيريا، دار بينى وبينه حديث مطول ساقتنى تفاصيله لمعرفة مكانة مصر الحقيقية بقلوب الشباب الإفريقى. قال لى محمود "لقد جئت من أجل هذا الأمل؛ من أجل كوكبنا، إنه الأمل الذى يتجدد بقوة مصر، رغم أن هذه الزيارة الأولى لمصر إلا أننى لم أشعر بالغربة مطلقًا، فمنذ الوهلة الأولى وجدت ترحيبًا وحفاوة استقبال جعلتنى أشعر بدفء بلدى، إن هذا ما سمعناه عن مصر فلمسناه على أرض الواقع".
تركت محمود ووهج الطاقة الإيجابية يملؤنى مدعومًا بروح الفخر بانتمائى لهذا البلد القوى بحنوه على أبناء أفريقيا، ليصبح الصدر الواسع الذى يحوى بين ذراعيه العالم أجمع دون تمييز أو تفرقة.
وفى اليوم التالى، وأثناء ذهابى لحضور جلسة بقاعة"أيبس"، التقيت راتشيل القادمة من جزيرة موانا ـ إحدى جزر المحيط الهادئ ـ وقد زينت الورود خصلات شعرها الجميل، وما إن تبادلان الحديث حول المؤتمر والزخم الإنسانى الذى امتاز به لأجدها تهدينى إحدى الورود الجميلة التى جلبتها معها من جزيرتها وترتسم على وجهها الابتسامة ذاتها التى تعلو وجوه الحضور.
"إن cop27 هو فخر لنا جميعًا كأفارقة، ونحن كشباب متحمسون لمساندة الدور المصرى بشأن مواجهة المخاطر التى تتهدد المُناخ، فهذا تهديد لنا جميعًا".. بتلك الكلمات أعربت أبيد أبالو ساما من دولة توجو عن رأيها فى القمة، مبديةً إعجابها بدرجة التنظيم التى خرج بها مؤتمر المناخ وأيضًا الفعاليات المتنوعة التى تضمنها.
وأضاف مابري مويو من زيمبابوي ؛ أن ما يشهده العالم الآن هو مرحلة فاصلة فى تاريخ البشرية تقتضى قرارًا قويًا حاسمًا وإرادة جماعية تحث الدول الصناعية الكبرى على الالتزام بمسؤلياتها فيما يخص قضايا المُناخ، حيث إن تلك الدول هى المسؤول الأول والمساهم الأكبر فى تلك الانبعاثات المدمرة للبيئة؛ مؤكدًا ثقته فى قدرة مصر على القيام بتلك المَهمة بنجاح والعمل من أجل تجنيب القارة الإفريقية دفع مزيد من الأثمان مقابل انبعاثات"لا ناقة لها فيها ولا جمل"، وبنهاية الحديث أعرب عن سعادته بأجواء شرم الشيخ، قائلًا: "أنتم محظوظون بهذه المدينة".
مَشهد آخر من المشاهد الإنسانية التى كانت سمة من سمات مؤتمر المناخ، تلك التظاهرات التى جمعت جنسيات مختلفة، داخل مقر انعقاد مؤتمر المناخ cop27؛ للتعبير بطريقتهم الخاصة عن رفضهم كل ما يشوه الطبيعة ويغتال جمالها فيضر بالكرة الأرضية؛ بعضهم اختار الرسم بأشكال الحيوانات والنباتات للتعبير عن الفكرة، والبعض الآخر اختار العزف على الموسيقى مع الهتاف بشعارات باللغة الانجليزية مثل (دعونا نبدأ الطعام النباتى ونتوقف عن تناول اللحوم)، (فلنتوقف عن قتل الحيوانات)؛ ( دعونا ننقذ كوكبنا )، (لنتخلص تدريجيًا من الوقود الأحفورى)، (فلننقذ الأرض)..وغيرها من العبارات التى تهدف لإنقاذ كوكب الأرض من المخاطر التى تتهدده بفعل الاستخدام السىء للطاقة.
قالت لى صوفى كيمك من ألمانيا "إننى أشترك ومجموعة من الأشخاص من بلدان مختلفة فى تلك الوقفة لنعلن للعالم موقفنا الرافض للعبث بكوكبنا، فقد جمعتنا غاية واحدة، جئنا خصيصًا للمشاركة فى قمة المناخ لاستشعارنا أهميتها فى تنمية الوعى بما يهدد كوكبنا من مخاطر.
أضاف آدى هودجمان من المملكة المتحدة، قائلًا "لقد أتيت إلى هنا خصيصًا من أجل المشاركة فى النداء الذى تطلقه الإنسانية جمعاء من أرض السلام شرم الشيخ لإنقاذ الكوكب، وهذا واجبنا جميعا لحماية الأرض خاصة من انبعاثات الدول المتقدمة التى ينتج عنها تدمير للبشرية ، لقد اقتربنا من حافة الهاوية وعلى الدول أن تنتبه".
مشهد ثالث من المشاهد الإنسانية، تمثل فى مشاركة الأطفال للمرة الأولى من جنسيات مختلفة فى فعاليات قمة المناخ، وعقد جلسات ناقشت العمل بقيادة الأطفال والمراهقين من أجل مواجهة تغير المناخ وتعزيز مشاركة الأطفال في العمل المناحي. وشارك ذوو الهمم بطاقاتهم الإيجابية الرائعة أيضًا فى فعاليات القمة فى مشهد إنسانى راقٍ.
وبشكل عام، أتاح مؤتمر المناخ فى دورته السابعة والعشرين مساحة كبيرة لمشاركة الشباب بطريقتهم الخاصة ومواهبهم المميزة، خاصة فى منطقة الجرين زون، التى كانت زاخرة بالأنشطة الفنية الإنسانية التى تجذب انتباهك الكبار والصغار.
وإذا انتقلنا للإعلاميين المشاركين فى تغطية القمة والذين تجاوزت أعدادهم الثلاثة آلاف من وسائل إعلامية مصرية وعربية وأجنبية، فلن أبالغ إذا قلت إنهم كانوا أسرة واحدة، فالجانب الإنسانى كان طاغيًا، فلم يكن التناحر المقيت للفوز بسبق أو لقطة حاضرًا، بل كان التنافس المعتدل الشريف، بروح محبة جمعت الكل، بل إن روح المساعدة لمن يحتاج سائدة فى تلك القمة، لم يبخل أحد بمعلومة عن الآخر، حتى الطعام أو المياه تجد من يقدمها لك بلطف بمجرد استشعاره احتياجك إيًا منها تمتد إليك..
لقد حملت لنا قمة شرم الشيخ رسائل عدة، تُذكرنا فى مجملها بالمقولة الدارجة"إيد لوحدها ماتصقفش"..و لا يمكن مواجهة التحديات بمعزل عن روح التعاون والتضامن بين الشعوب، وأن إحلال السلام هو مفتاح حل جميع المشكلات، وبداية كل طريق صحيح للوصول لغاياتنا والحفاظ على كوكبنا..إنها حقًا رسالة محبة وسلام من "أرض السلام" .