يبدو مفهوم "الحماية" مرتبطا إلى حد كبير بالعلاقات الدولية، في العديد من المراحل التي مر بها النظام العالمي، وإن كان مختلفا في كيفية التطبيق ونطاقه، وهو ما يتجلى في أبهى صوره في مراحل المخاض، التي ينتقل فيها النظام الدولي من مرحلة إلى مرحلة أخرى، حيث تبقى القوى المؤهلة للقيام بدور على المستوى الدولي، قادرة على تقديم غطاء من "الحماية"، لمنطقة أو إقليم معين، وهو ما يبدو في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي تمكنت فيها كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إثر دورهما الحاسم، في انتصار قوات الحلفاء على المحور، على الاستئثار بقيادة العالم، عبر تقسيمه إلى معسكرين، أحدهما في الغرب، بقيادة أمريكية، بينما قادت موسكو المعسكر الشرقي، مقابل تقديم الحماية لمناطقهما، سواء أمنيا أو عسكريا أو اقتصاديا، في الوقت الذى خضعت فيه الدول لرؤى القوى الحاكمة في كل منطقة، والمبادئ التي تنادي بها، للحصول على العديد من المزايا، بعد سنوات الدمار والحرب التي عاشتها شعوبها، من أجل الانطلاق نحو إعادة البناء وتحقيق التنمية الاقتصادية، وهو ما ساهم في اندلاع صراع أيديولوجي بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفيتية تحت مسمى "الحرب الباردة".
ومع نهاية الحرب الباردة، واستئثار واشنطن بالقيادة الدولية، شهد مفهوم "الحماية" الدولية، تغييرا جذريا، حيث اتخذ منحى مختلف، يقوم على حماية المباديء التي تعتنقها القوى الحاكمة في العالم، بل وتعميمها عبر فرضها، ليس فقط على المحيط الدولي، وإنما على الكوكب بأسره، وهو ما يفسر التدخل الغربي، برعاية أمريكية، في شؤون الدول الأخرى، تحت ذريعة الديمقراطية تارة وحقوق الإنسان تارة أخرى، وما يندرج تحتهما من مباديء تتعلق بالتجارة الحرة، وحرية الرأي والتعبير، وهو النهج الذي لم يراعي اختلاف الظروف والثقافات في كل منطقة، إلى الحد الذى أطلقت فيه واشنطن وحلفائها حملات عسكرية لترسيخ تلك المباديء، على حساب حياة ملايين البشر، على غرار الحرب على العراق وأفغانستان وحتى "الربيع العربي"، والذي تداخل فيه الغرب سياسيا وأحيانا عسكريا، لدعم الفئة الموالية له، والتي تمثلت في "حفنة" من النشطاء.
ولعلنا نلحظ أن نطاق "الحماية" شهد تراجعا ملحوظا على المستوى العملي مع اتساع نطاقه الجغرافي لقوى واحدة، إذا ما قارننا بين حقبة الحرب الباردة، من جانب، وعصر الهيمنة الأمريكية من جانب أخر، ففي الحقبة الأولى قدمت الولايات المتحدة، غطاء شامل من "الحماية" لأوروبا الغربية، سواء سياسيا أو أمنيا أو اقتصاديا، تمكنت من خلاله الفوز بولاء الشعوب أكثر من الأنظمة السياسية، وهو ربما ما لم يتحقق في المعسكر الشرقي، مما ساهم في تفجير الاتحاد السوفيتي من الداخل، وانهياره وانتصار الولايات المتحدة في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي كان من المستحيل تحقيقه، في زمن "الهيمنة"، نظرا لمحدودية إمكانات دولة واحدة، مهما بلغت، أن تقدم "الحماية" عالميا بنفس الصورة، ليتحول المفهوم من حيث التطبيق، من دعم الدول بما يعود بالنفع على شعوبها، نحو ترسيخ "مباديء صماء"، ترتكز في الأساس على تدعيم فكرة الهيمنة، بكل الوسائل الممكنة، والتي وصلت إلى إطلاق الحروب، فصارت، على سبيل المثال، كلمة "حقوق الإنسان"، بديلا لـ"حماية الشعوب" من المخاطر المحدقة بها.
التحول نحو "حماية" المبادئ الأمريكية، تقلص فيه الدعم الذي حظت به الشعوب قبل ذلك، والقائم على مساعدتهم على تحقيق التنمية، وساهم في تحقيق طفرة اقتصادية وسياسية حققتها أوروبا منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى بناء الاتحاد الأوروبي في التسعينات، وهي السياسات التي أضفت قبولا شعبيا نسبيا، على المستوى العالمي، للقيادة الأمريكية الأحادية للعالم، على أمل تكرار المشهد الأوروبي، خاصة مع فشل النموذج السوفيتي، إلا أن الدعم الأمريكي تراجع مع زمن الهيمنة عبر التحول من خدمة الشريحة الأكبر من الشعوب، إلى الانصراف نحو قضايا أخرى، كالمعارضة السياسية والأقليات والمرأة، هنا أو هناك أولا، ثم اقتصر بعد ذلك على دعم فئة النشطاء، حسب توافق أجنداتهم مع الرؤى الأمريكية، وهو ما يبدو في حقبة "الربيع العربي"، ليتقلص معها الدعم الشعبوى الذي تحظى به واشنطن، خاصة مع الفوضى التي اندلعت في منطقة الشرق الأوسط في العقد الماضي، والتي وضعت بعض بلدانها على حافة الهاوية، بينما انغمس البعض الأخر في مستنقع الحروب الأهلية، والتي مازالت تداعياتها قائمة حتى الآن، ناهيك عن تمدد خطر الإرهاب، عبر ظهور تنظيمات عابرة للحدود، باتت تمثل تهديدا للغرب في عقر داره، على غرار داعش، ليتقلص الدعم الشعبي لأمريكا في الشرق والغرب في آن واحد.
وهنا باتت الحاجة ملحة إلى "إعادة هيكلة" المفهوم، من خلال ما أسميته في مقال سابق بـ"إعادة توزيع القيادة الدولية"، عبر تفعيل دور القوى الإقليمية التي يمكنها تقديم غطاء من "الحماية"، لمناطقها الجغرافية، وهو ما يتجلى في العديد من المشاهد، في اللحظة الدولية الراهنة، ربما أقربها الدور الذي تقوم به مصر، بالدفاع عن حقوق محيطها الإفريقي، في مختلف المحافل الدولية، وآخرها خلال قمة المناخ، فيما يتعلق بحقها في التنمية، وضرورة دعمها من قبل القوى الكبرى، وهو ما أثمر في نهاية المطاف عن تدشين صندوق الخسائر والأضرار، والذي يمثل طفرة هائلة فيما يتعلق بالعمل المناخي منذ سنوات طويلة، وهو ما يمثل خدمة للشعوب، في ظل الأزمات التي تعصف بهم، في المرحلة الراهنة، وحاجتهم لتحقيق التنمية المستدامة حتى يمكنهم تجاوزها.
الأمر نفسه ينطبق على محاولات فرنسا، لتقديم نفسها كقوى فاعلة في محيطها الأوروبي، عبر الدفاع عن مصالح دول القارة العجوز، لخدمة شعوبها، في مواجهة القرارات الأمريكية المتعاقبة، التي أضرت بمصالح الحلفاء في أوروبا، وأخرها قانون التضخم الأمريكي، والذي اعتبره البعض بـ"الضربة القاتلة" للصناعات الأوروبية، ودعواتها المتكررة لاستقلال القرار الأوروبي بعيدا عن البوصلة الأمريكية، في ظل التعارض الكبير في المصالح.
وحتى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ربما تجد جزء كبير من منطقها، في مفهوم "الحماية"، ليس فقط على مستوى الأمن القومي الروسي في ظل التهديدات الغربية جراء التوسع الكبير في حلف الناتو وامتداده إلى مناطق موسكو الجغرافية، وإنما أيضا "حماية" سكان الأقاليم المضطهدة في مناطقها، والتي اعلنت استقلالها عن كييف، على غرار دونباس ودونيتسك وغيرها.
وهنا يمكننا القول بأن مفهوم "الحماية"، بات جزءا لا يتجزأ من انطلاق مرحلة دولية جديدة، في النظام العالمي، في ظل ارتباطه بمبدأ "حقوق الشعوب"، والذي يبدو بديلا، أو على الأقل مكملا لفكرة "حقوق الإنسان"، عبر اعتماد نهج إقليمي، يعتمد على القوى المؤهلة في كل إقليم لتقديم غطاء من "الحماية" لأكبر نطاق ممكن من الشعوب المحيطة بها، والدفاع عن مصالحها في زمن الأزمات الراهنة، والتي تحظى بطبيعة فيروسية سريعة التمدد والانتشار، وهو ما يمثل في جوهره أسمى درجات حقوق الإنسان، والذي تتشدق به بعض القوى الدولية، بينما استخدمت معداتها العسكرية لترسيخه، في تعارض صارخ بين المباديء المعلنة وأسلوب تطبيقها، لتكون النتيجة في النهاية مزيدا من النفور الشعبي تجاهها