قد تتسائل لماذا سامية جمال، ولماذا الكتابة عن راقصة راحلة منذ عشرات السنوات، فأنا مسكون بهاجس الكتابة عن سامية جمال منذ أن قرأت عن حياتها ضمن تاريخ الرقص فى مصر ومرحلة تحوله من هز البطن والوسط والأرداف لفن استعراضى راقى، وذلك تزامنا مع ذكرى رحيل صاحبة المدرسة الاستعراضية الأولى باقتدار.
فى الأول من ديسمبر عام 1994، رحلت الفراشة الراقصة عن عمر يناهز السبعين عاما، تلك المرأة التى استطاعت أن ترسخ تقاليد مصرية للفن الاستعراضى، بعد أن مزجت الشرقى منه بالغربي لتخرج بمدرستها من صالات الأفراح والملاهي الليلية إلى خشبة المسرح والسينما، ورغم الرحيل الذى مر عليه الكثير فالمثير للعجب أنها مازالت حاضرة ومؤثرة حتى الآن، ومع ذلك صانت لنا الأفلام هذا الفن الذى طرحته جديدا وقتها للأداء الاستعراضى المتقن، وقد أسمح لنفسى أنه أطلق عليه نظيفا مقارنة بما قبله.
ولدت زينب خليل محفوظ، فى قرية صغيرة بمدينة الواسطى أول بلدان شمال صعيد مصر، ولظروف اجتماعية قاسية بعد وفاة والدتها ومعاملة زوجة الأب التي جعلتها تعمل خادمة لمدة 5 سنوات حتى بلغت الثالثة عشر من عمرها قررت الهروب للقاهرة، وطأت قدما زينب شوارع المحروسة عام 1940 ومنها تعرفت على الراقصة بديعة مصابنى وعملت راقصة مع فتيات الفرقة خلف بديعة، فكان أكثر ما يميز أداءها أنها غيرت نظرة الجمهور للراقصة بكونها قطعة جسد متحركة لحركات استعراضية، إلى أن اقتنعت بها بديعة وأطلقت عليها اسم سامية جمال.
ودعت بنت الريف اسم زينب، وبدأت مسيرة غيرت بها مفهوم الرقص من رغبة وإثارة غريزة ونظرة رواد الأفراح للراقصة بعين دونية إلى فن استعراضى مبهر، فالرقص الشرقي في الأفراح بالقرى المصرية الفقيرة منها والغنية أيضا كان ناتج ثقافة استدعاء لكتلة الجسد، الذى تحررت منه سامية بخفتها ورشاقتها وحركة جسدها، فكان أهم ما يميز شخصيتها وجهها المبتسم دائما ونظرة عينيها التى تحتضن خجل وعذرية ووجنتيها التى تشى بخفر البنات، وأناقتها الشديدة فى اللبس ولباقتها فى الكلام والحضورالآسر، فاحتفظت برشاقتها حتى سن السبعين من عمرها، فاستحقت لقب الفراشة، فى وسط كان فيه الرقص مجرد مهنة لا ترقى لكونها فن.
شكلت سامية مدرستها الخاصة فى الأداء الاستعراضى، وعرفت بنجمة الرقص الشرقى الأولى في مصر فيما كانت مع تحية كاريوكا فى تعليم وأداء الرقص الشرقى. ورغم أن الاثنتين بدأتا فى الفرقة نفسها فرقة "بديعة مصابنى"، إلا أن كلا منهما كانت لها أسلوبا مميزا ومختلفا فى الرقص.
اشتهرت سامية جمال بالمزج بين الرقص الشرقى والغربى، واعتمدت فى آداء رقصاتها على الملابس المبهرة والموسيقى والديكورات. أما تحية كاريوكا فكانت تفضل الطابع القديم التقليدى للرقص الشرقى بالرغم من أنها أضافت إليه الكثير من التطوير.
طرقت سامية أبواب السينما فى عام 1941عام فى فيلم "انتصار الشباب" أمام فريد الأطرش بدور استعراض غنائي، ومن بوابة هذا الفيلم انطلقت لتحظى بأدوار البطولة، حيث شاركت فريد الأطرش فيلم "حبيب العمر" واستطاعا تكوين ثنائى فنى ناجح، نتج عنه قصة حب غير معلنة ظلت لسنوات سجينة القلوب، فقد ذكرت فى تصريحات لها أن فريد حب حياتها على الرغم من أنها تزوجت من دنجوان السينما المصرية رشدى أباظة طيلة 18 عاما، لكن حب حياتها الحقيقي كان فريد فقالت ذلك بوضوح وشجاعة حتى بعد موت رشدى، وفى أحد اعترافات سامية لصديقها المقرب الموسيقى محمد أمين قبل وفاتها قالت إنها تزوجت فريد عرفيا، ولكنه رفض الاعتراف بالزواج لكونها راقصة، مما سبب لها ألما كبيرا وبعدها تزوجت متعهد حفلات أمريكى كان يعمل فى باريس ويدعى شبرد كينج الذى أعلن إسلامه قبل أن يتزوجها وسمى نفسه عبد الله، ولم يدم هذا الزواج إلا فترة قصيرة جداً.
لم تكن علاقتها برشدى أباظة على وفاق، على الرغم من أنه كان مطمع ومطمح معظم النساء والفتيات، فقد كان شخصية صعبة ومتقلبة المزاج، وعصبى دائما، وقد تحملته كثيراً، بل إنها كانت بمثابة أم لابنته "قسمت" التى ربتها منذ أن كانت طفلة، حيث إنها لم تنجب أبداً وكانت كل مشاعر الأمومة قد أهدتها لقسمت وأبناء أشقائها، ووفقا لمحمد أمين فقد تغاضت سامية جمال كثيراً عن علاقات رشدى أباظة ونزواته، إلى أن وصل الخلاف بينهما إلى نقطة اللا عودة، حيث أصرت على الطلاق فتم الانفصال، ولم تتزوج بعدها سامية جمال برغم العروض المغرية لأنها كانت تعتبر الرجل الحقيقى الذي ملأ حياتها ولم يعوضها عنه أي رجل آخر هو فريد الأطرش.
جسدت فى السينما المصرية العديد من الأدوار فى أفلام أشهرها انتصار الشباب، ممنوع الحب، رصاصة في القلب، أمير الانتقام، أحمر شفايف، سكر هانم، نشالة هانم، رقصة الوداع، الرجل الثاني، كل دقة في قلبي، حبيبي الأسمر، موعد مع المجهول، الشيطان والخريف، ومرحباً أيها الحب، أحبك أنت، عفريتة هانم، آخر كدبة، تعالى سلم ، ماتقولش لحد إلى أن وصل رصيدها فى السينما إلى 44 فيلماً.
اعتزلت سامية الرقص فى أوائل السبعينات، ثم عادت مرة أخرى وكانت تقترب من سن الستين بعد أن أقنعها الفنان سمير صبرى، حيث عملت مع فرقة صديقها محمد أمين الموسيقية، الذي أهدى لها مقطوعات موسيقية من ألحان فريد الأطرش لترقص على أنغامها، ثم قررت الاعتزال الأخير بعد تكريمها في مهرجان تولوز بفرنسا لأنها أرادت بذكائها الفنى أن تترك انطباعاً جميلاً لدى الناس يتناسب مع مشوارها الفني الكبير، وبعدها انقطعت علاقتها بالفن تماما فقد امتنعت عن تلبية دعوة القنوات بأن تقوم بالتعليق على أفلامها وذكرياتها لأنها لم تكن ترغب فى الظهور على الشاشة مرة أخرى لأى سبب من الأسباب ولكى يظل الجمهور يحتفظ بصورتها التى عرفها بها.
يقول صديقها محمد أمين أن سامية جمال لم تكتب مذكرات ولم تفكر فى ذلك رغم العروض المالية الكبيرة التى تلقتها، مؤكداً أنها كانت لا ترغب في الحديث عن حياتها الخاصة، وقبل وفاتها أصرت على شراء مدفن لها في أول طريق السويس وقامت بزيارته فوجدت اللوحة الرخام على القبر مكتوب عليها الفنانة سامية جمال فاعترضت بشدة وطلبت تغييرها وقالت: "الموت مافيهوش فنانة ولا غيره".
فيما فوجئ المشيعون وقت دفنها أن اللوحة مكسورة على الأرض كما طلبت، فكانت كسرة النفس أيضا على امرأة ملأت الدنيا مرحا ولاقت ربها بقلب سليم.. رحم الله سامية جمال