حالة من الاتساع باتت تشهدها أقاليم "المحروسة"، من أقاصي الصعيد إلى البحر المتوسط، مرورا بالوادي الذي يتسع يوما بعد يوم، بعدما كان مجرد شريط "أخضر" على الخريطة، بينما كان التجريف والاعتداءات المتكررة على الأراضي الزراعية تعكر "صفاء" لونه، وهو الذي ربما لم يدرك قطاعا كبيرا، من المواطنين خطورته إلا مؤخرا، مع اندلاع أزمة غذاء عالمية، إثر الحرب المندلعة في أوكرانيا، والتي تركت تداعيات كارثية على القطاع الحيوي، وهو ما يبدو في نقص السلع الغذائية، والارتفاع الكبير في أسعارها، ليس فقط في نطاق الدول الفقيرة، وإنما يبقى أكثر وضوحا في دول أوروبا الغربية، والتي تبدو الأمور لديها مضاعفة، جراء أزمة نقص الطاقة، والتي تساهم هي الأخرى في تفاقم الأزمة جراء ارتفاع فاتورة النقل والعمل بالمصانع، والتي تعتمد بصورة أساسية على الطاقة.
وهنا نجد أن ثمة ارتباط كبير وواضح بين الرؤى التي تتبناها الدولة المصرية في الداخل من جانب، والظروف الدولية من جانب أخر، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد العالمية التي استبقتها "الجمهورية الجديدة"، بخطوات وقائية، وهو ما يبدو، على سبيل المثال، في تدشين صوامع القمح، قبل عام تقريبا من اندلاع الأزمة الأوكرانية، وهي الخطوة التي ساهمت بصورة كبيرة في احتواء تداعيات أزمة الغذاء، والتخفيف منها إلى حد كبير، مقارنة بأوضاع العديد من الدول الأخرى، بعضها يتفوق من حيث الإمكانات، سواء الاقتصادية أو التكنولوجية، وهو ما ينطبق كذلك على قطاع الطاقة، عبر التوجه نحو استكشاف المزيد من حقول الغاز الطبيعي، منذ سنوات، والتعاون مع اليونان وقبرص، في إطار "منتدى غاز شرق المتوسط"، لاستغلالها، لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي، بل وتحقيق ميزة التصدير للخارج، وهو ما يمثل انعكاسا لقراءة متأنية للمشهد الدولي الراهن والقدرة على استباقه بسياسات "وقائية"، على عكس النهج السابق، والذى اعتمد استراتيجيات "دفاعية"، في إطار "رد الفعل" الذي يتبع وقوع الأزمة.
وبين النهج "الوقائي"، والسياسات "الدفاعية"، تبدو استراتيجية الدولة المصرية، القائمة على ما أسميته في المقال السابق بـ"إعادة هيكلة الجغرافيا"، هي الأخرى انعكاسا لإدراك طبيعة المشهد الدولي الجديد، عبر التوسع في تدشين المدن الجديدة، والعمل على توسيع النطاق الجغرافي للأقاليم المصرية، مع ربطها ببعضها، واستغلال إمكاناتها، وتطويرها، لتحقيق أكبر قدر ممكن من التكامل فيما بينها، من خلال تنويع الإنتاج، بين الزراعة والصناعة، مع التركيز على الصناعات الحرفية، وهو الأمر الذي من شأنه تحويل المحافظات، التي عانت تهميشا طويلا، إلى بؤر فاعلة في عجلة الاقتصاد القومي، في ظل مرحلة تتسم بحساسيتها الشديدة، جراء تواتر الأزمات وتداعياتها الكارثية.
الاستراتيجية المصرية، رغم كونها تهدف في الأساس لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الداخل، وتجاوز الأزمات الراهنة، تحمل في طياتها استباقا للمشهد الدولي، والقائم على مسارين متوازيين، أولهما يقوم على الانفتاح الإقليمي، في إطار توسيع نطاق الأقاليم الدولية، عبر تجاوز صورتها التقليدية لتحقيق أكبر قدر من التكامل مع عدد أكبر من الدول، بعيدا عن سياسات "الجزر المنعزلة"، والتي اعتمدت نهجا يبدو "أنانيا"، في التعامل مع أزمات وصراعات المناطق البعيدة، والاكتفاء بالتنظير السياسي تارة، أو تقديم "الدعم المادي المشروط" دون تقديم مساهمة ملموسة لحلول فعلية، وهي السياسات التي لم تعد متواكبة مع المعطيات الجديدة، في ظل تمدد الأزمات المستحدثة، وامتدادها، الزمني والجغرافي، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى المزيد من الانفتاح والتكامل، مما يحقق انغماسا فعليا، من قبل القوى الكبرى، ليس فقط لحل الأزمات التي تقع في مناطق جغرافية تبتعد عنها، وإنما أيضا مساعدتها على تحقيق التنمية.
ولعل الحديث عن دعم العملية التنموية في مختلف الأقاليم الدولية، يمثل المسار الأخر، للرؤية المصرية، والتي اتجهت نحو تحويل أقاليمها ومحافظاتها المهمشة إلى بؤر منتجة وفاعلة ومساهمة في تحقيق النمو الاقتصادي، بعيدا عن الاعتماد المطلق على العاصمة، تبقى الحاجة الدولية، في المرحلة الراهنة، لدعم الدول الفقيرة والنامية، حتى يمكنها تحقيق التنمية الاقتصادية في إطار مستدام، وبالتالي المساهمة، في إنهاء حالة الركود، عبر تطوير أدواتها، وهو السبيل الأنجع، ليس فقط لدفعها نحو الاعتماد على نفسها بدلا من انتظار الدعم المقدم لها من الخارج، وإنما أيضا يمكن الاعتماد عليها في بعض القطاعات، حسب ما تملكه كل منطقة من إمكانات، في إطار تكاملي، لتتحول الدول المهمشة إلى قوى فاعلة ومنتجة، وبالتالي تخفيف العبء الواقع على كاهل القوى الدولية الكبرى جراء التزامات شكلية بتقديم الدعم لها، في ظل عدم قدرتها على القيام بهذا الدور، في ظل الظروف الراهنة.
النهج المصري في الداخل يمثل نموذجا، يبدو ملهما، ليس فقط لاستلهامه وتعميمه، فيما يتعلق باستنساخه في محيطها الإقليمي والدولي فقط، وإنما يمكن الاحتذاء به فيما يتعلق بإدارة المجتمع الدولي، ١على المستوى الجمعي، في المرحلة الراهنة، حتى يتمكن العالم من تجاوز الأزمات الراهنة، ومواكبة مرحلة جديدة في النظام العالمي، تقوم على التعددية، بعيدا عن الهيمنة الأحادية التي سيطرت على العالم خلال العقود الماضية.
وهنا يمكننا القول بأن عبقرية "الجمهورية الجديدة" لا تقتصر في نطاقها على انعكاساتها على الداخل، رغم أولويته، وإنما تمتد في أبعادها على المحيط الجغرافي، عبر إمكانية تعميم التجربة المصرية في مناطقها، بل وتقدم في الوقت نفسه رؤية دولية إلى الكيفية التي يمكن بها إدارة العالم، في زمن تكتنفه الأزمات، من كل الاتجاهات، وتعصف به الكوارث التي لم تعد تضع في اعتبارها تلك التصنيفات القديمة للدول بين "عالم أول وثالث"، مما يضع الكوكب بأسره على حافة الهاوية.