لم يكن يخطر في بالى لحظة أننى سأكتب عن مفيد فوزي، صاحب الحضور الطاغي في وجدان المشاهد المصري، من ناحية، وعن أحد أهم رموز الصحافة وصنايعية الحوار من ناحية أخرى، فهو أمر أكثر صعوبة وتعقيدا وإن جاز القول فهو أعظم محاور عربي على مر العصور، وأن إبداعاته فى الأسئلة والتقديم فاقت ما تركته لنا مجلدات الصحافة والإعلام، من حيث فرادتها وعمقها وأبعادها المختلفة، يحتل الكاتب الصحفي الراحل الأستاذ مفيد فوزي أنصع ركن في قلب بلاط صاحبة الجلالة نظرا لدوره التاريخى في الارتقاء بمهنة الصحافة والإعلام وانحيازه الصريح للثقافة الصحفية واستخراج الحقائق المعلوماتية من خلال الحوار في برنامجه الأشهر حديث المدينة، بكل موضوعية ومركزية مهنية دون إنصاف لرأي عن الرأي الآخر.
هكذا عرفت مفيد فوزى منذ الصغر كأي طفل يخشى الإزعاج أمام شاشة التليفزيون بينما يستمع والده بآذان صاغية لبرنامج حديث المدينة، إلى أن التقيته بعد أن وطأت قدماي بلاط صاحبة الجلالة بعشرة سنوات أو يزيد في حفل توقيع مؤلفات الدكتور زاهى حواس، تبادلت معه أطراف الحديث، فكان يقرأ الوجوه جيدا ويفسر تعبيرات الملامح بذكاء، فلم يحرمنى من استفساراتى وكأنى أحاور الإعلامي الأشهر قائلا : "أفندم.. أؤمر عايز تقول إيه"، هكذا فتح لى حافظة حديثه الممتع حول هموم الصحافة والصحفيين ومهنية العمل الصحفي وكيف على الصحفى الماهر أن يتسلح بأدوات تميزه عن غيره، فكان موسوعة تحكى وأنا أصغي لها بكل أدب وحرص، إلى أن دعاني الفضول للنبش حول هذا الكنز الثمين كيف نشأ وكيف تعلم ومن أين اكتسب خبراته ومن قدوته ومن مهد له الطريق ليقف بخطواط ثابته ينادي بحديث المدينة فوق بلاط صاحبة الجلالة، هكذا أصبح مفيد فوزى سعد، ابن موظف حكومي بسيط وأم ربة منزل، هى من شجعته على حب القراءة والكتابة واقتناء الكتب والجرائد، فزرعت فيه حصافة القول ومن ثم صحافة القلم، وإن كان وراء كل رجل عظيم امراءة.
السيدة مريم فرج هى من أهلت أهم رموز الحوار إلى أن تخرج من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة عام ١٩٥٩، بعدها طرق باب مؤسسة روز اليوسف، كأي خريج يبحث عن فرصة للتدريب في كروب ودروب دنيا الصحافة، إلى أن عين محررا صحفيا في مجلة صباح الخير أحد أهم إصدارات روز اليوسف، فيما احتضنه الأستاذ أحمد بهاء الدين، الذي كان أصغر رئيس تحرير في مصر والوطن العربي نظرا لكقاءته عندما أصدر مجلة "صباح الخير" عام 1956 وكان عمره ٢٩ عاما، احتضن مفيد فوزى لما وجد فيه من ذهن متقد وشغف لا يوصف بالتحقيقات الصحفية، تدرج مفيد فى دفء الأستاذ الذي ترك رئاسة تحرير صباح الخير ثم تولى رئاسة الأخبار وبعدها الأهرام والهلال ثم غادر مصر ليتولى رئاسة تحرير مجلة العربي الكويتية عام ١٩٧٦ حتى ١٩٨٢، تلك الفترة التى تربع فيها مفيد التلميذ النجيب لأستاذه على عرش رئاسة تحرير صباح الخير لمدة 8 سنوات، فإن عرف القاريء الأستاذ أحمد بهاء الدين برائد الاستنارة، فالمحاور العظيم كان له مقولة يرددها في حق أستاذه :" أحمد بهاء الدين الكاتب الصحفى الفذ الذي اقترن اسمه بلقب أستاذ دون عن صحفي جيله فحتى بعد مماته لا ينطق اسمه إلا الأستاذ أحمد بهاء الدين.. هكذا كان الإخلاص في التعبير من قول التلميذ لأستاذه.
بعدها تفرغ مفيد فوزي لبرامجه التليفزيونية حيث استضافة صاحب المحاورات المثمرة للشخصيات المؤثرة، على رأسهم الرئيس محمد حسني مبارك ، حيث حاوره 4 مرات، كما حاور وزراء الداخلية حسن أبو باشا، أحمد رشدي، زكي بدر، حسن الألفي، وحبيب العادلي وكذلك رؤساء الوزراء منهم كمال الجنزوري، عاطف عبيد، كمال حسن علي، وعلي لطفي، وعدد كبير من أهم فنانين وأدباء مصر والوطن العربي.
أما عن برنامجه الأشهر "حديث المدينة" الذي بدأ أول حلقاته في13 مارس عام 1998 بترشيح خاص من وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف، وكان البرنامج مأخوذًا من فكرة برنامج ناجح في لندن بعنوان "Talk of the town"، ويعد برنامج "حديث المدينة" من أوائل البرامج التي خرجت فيها كاميرات التليفزيون إلى الشارع المصري، وحقق البرنامج وقتها نجاحًا كبيرًا في الشارع، وعلق في أذهان أجيال.
رحل مفيد فوزى وبقي درسه الذي علمه لنا، ودرسه هو أن العبرة بالموهبة والتفاني في العمل لا بالشكل ولا بالهيئة، وأن البقاء للأقدر على التواصل عبر الأجيال وبالمحتوى الهادف الذي يقدمه، فكلما كان المحتوى أقرب للناس ويلمس احتياجهم كان أنجح، وكلما وثق الإعلامي في نفسه وفيما يقدمه كان على طريق مفيد فوزى.