فى الوقت الذى تفرض فيه الأزمات المستحدثة التى يشهدها العالم طبيعة جديدة للعلاقات الدولية، جرّاء التداعيات غير محدودة النطاق المترتبة عليها، سواء زمنيا أو جغرافيا، تبقى الحاجة ملحة لمزيد من التضامن والتكامل "متجاوز الجغرافيا"، بعيدا عن سياسة الإملاءات والتنظير التى طالما تبنتها القوى الكبرى فى التعامل مع محيطها الدولى، بينما تبقى المبادئ الحاكمة فى حاجة إلى "إعادة هيكلة"، أو بالأحرى "إعادة اعتبار"، بعد عقود طويلة من التشدق بها، فى حين كان التطبيق العملى لها يتسم بقدر كبير من "الانتهازية"، فى تعارض صارخ بين ما تحمله الكلمات التى يروّج لها العالم من أبعاد "إنسانية"، بينما كان استخدامها يقوم على نهج "أنانى"، يحمل فى طيّاته نظرة استعلائية، ويهدف فى الأساس لتأجيج حالة من الفوضى، سواء على المستوى الجمعى عبر إشعال الأقاليم بالصراعات والنزاعات، أو فى الداخل بإشعال الفتن فى نطاق "أهلى".
الحديث عن نظريات الصراع على المستوى الدولى الجمعى، قد تناولته بإسهاب فى مقال سابق بعنوان (حماية الإنسان.. من نظريات "الصراع" الدولى إلى "المهادنة") إلا أن تلك النظريات حملت فى حقيقة الأمر وجها آخر، يعتمد على دفع الدول نحو التآكل من الداخل عبر تجنيد حملات تحمل أجندات بعينها، وتهدف فى الأساس إلى تأجيج الفوضى التى تصل فى مداها إلى حدّ الحروب الأهلية، تحت مظلة مفاهيم سامية فى معانيها مثل "حقوق الإنسان"، بينما فارغة فى جوهرها، ووعود براقة فى ألفاظها، على غرار الديمقراطية، بينما تبقى واهية وبعيدة عن التطبيق العملى، بحكم الظروف واختلاف البيئات التى تفرض استحالة تحقيق المفهوم بالرؤى الغربية، فى حين كانت الأداة الفعالة فى هذا الإطار حفنة من العملاء، عملوا على إثارة الرأى العام هنا أو هناك، وتأجيج الفتن عبر أدوات التكنولوجيا الحديثة، التى تمكنوا من خلالها فى التواصل مع أكبر قدر ممكن من القطاعات المجتمعية، وحشدهم فى مواجهة دولهم.
لعل النموذج الأبرز فى هذا الإطار يتجسد فى مفهوم "حقوق الإنسان"، الذى يحمل معناه المجرّد أسمى درجات الإنسانية، بينما كان استخدامه العملى سببا فى خراب دول، ومناطق بأكملها، إلى الحد الذى ضجرت فيه شعوبها من الترويج المتواتر له، باعتباره سببا فى الدمار الذى حلّ بهم لسنوات، على غرار ما شهدته منطقة الشرق الأوسط فى العقد الماضى فى إطار ما يُسمّى "الربيع العربى"، الذى وضع دولا بأكملها على "حافة الهاوية". وعبر ما يمكننا تسميته بـ"الثورات بالوكالة" سعت قوى دولية كبرى من خلالها إلى تحقيق أهدافها، دون الانغماس فى مستنقع الحروب، عبر إطلاق العنان للصراعات الأهلية.
المعضلة الرئيسية التى واجهت المفهوم الحقوقى من حيث التطبيق، تجسدت ليس فقط فى تسييسه أو استخدامه بحسب الأهواء الدولية، وإنما أيضا فى تجريده من الجانب "الحمائى"، عبر تقديم غطاء لحماية الشعوب مما يحلّ بهم من أزمات جرّاء الفوضى المترتبة على فرض المفاهيم "المُعلّبة" غربيا، بعد دفعهم دفعا نحو تخريب بلادهم تحت المظلة الحقوقية، حتى تتحقق أهدافهم، لتسوء الأحوال بعد ذلك دون حراك حقيقى من القوى الدولية، التى قدمت وعودا براقة وخططا وهمية من أجل حياة أفضل دون جدوى.
بين الجانبين "الحقوقى" و"الحمائى" تبقى "فجوة" واسعة من الفراغ، أفقدت المفهوم سموّه، فصارت حياة الملايين حول العالم مُهددة، وتحولت مناطق بأكملها إلى "كرة لهب" تحرق كل من يقترب منها، ليس فقط بسبب السياسة وصراعاتها، وإنما أيضا بسبب الجوع والعوز لدى القطاع الأكبر من المجتمعات، فافتقدت الشوارع الأمن والأمان اللذان يمثلان الجانب الأهم لمفهوم "الحماية"، والذى كان متوفرا لدى الأنظمة التى سبق أن شيطنها عملاء القوى الكبرى، لينجر وراءهم الملايين دون إدراك أو حتى خطة حول صورة المستقبل، وكيفية صياغته، لتبدأ دوامة لا تنتهى من الصراع، حتى تصل الأمور فى نهاية المطاف إلى مأساة، تكررت كثيرا فى منطقتنا فى السنوات الماضية، بينما ما زالت شعوب بأكملها تجنى تداعياتها حتى الآن.
ربما كان الوضع مختلفا إلى حد كبير فى الماضى، مع ابتعاد القوى المحركة للفوضى، جغرافيا، عن مناطق الصراع، وبالتالى كانت بعيدة نسبيا عن الأخطار والتهديدات، رغم ظهور بعض الإرهاصات التى تجسدت فى امتداد خطر الإرهاب إلى أراضيهم، عبر تنظيمات "عابرة للحدود"، على غرار داعش التى فرضت تهديدا أمنيا على الغرب بتجنيد مئات من البشر، وللمفارقة أنهم استخدموا الأداة نفسها، التكنولوجيا، لترويج أفكارهم وحشد الموالين لهم "عن بُعد"، ليمثّلوا تهديدا حقيقيا لهم عبر تنفيذ عمليات إرهابية فى الداخل، ويجدوا أنفسهم فى نهاية المطاف على "خط المواجهة" أمام قوى الشر، ما دفعهم إلى تعزيز التعاون الإقليمى مع القوى الرئيسى فى أنحاء العالم، وفى القلب منها مصر، لدحر هذا الخطر الداهم.
المستجدات الدولية الأخيرة، وعلى رأسها امتداد الصراع الدولى إلى قلب أوروبا، فى أوكرانيا، وتداعياته، ناهيك عن أزمات الأوبئة والتغيرات المناخية، التى فشلت الإمكانات الكبيرة التى تحظى بها دول العالم "الأول" فى احتوائها عندما طالتهم فى "عقر دارهم"، بمثابة مرحلة جديدة تتطلب إعادة هيكلة العديد من المفاهيم، عبر التركيز على "حماية الإنسان" من الأخطار المحدقة به، خاصة فى المناطق المتضررة جراء الأزمات العالمية، باعتباره ليس مجرد جزء من المفهوم الحقوقى، وإنما يُعد فى جوهره الأساس الذى يقوم عليه.
ولعل التحول الحقوقى نحو "حماية الإنسان" الذى تحيط به الأزمات فى نقطة جغرافية بعيدة، لم يعد مقتصرا، من حيث المسؤولية، على حكومته أو دولته، وإنما تفرض المعطيات الدولية الجديدة ضرورة مدّ مظلة الحماية من قبل القوى الكبرى إلى مناطق الأزمات، عبر تقديم حلول، والمساهمة الفعالة فى إنهاء الصراعات وضمان "حياة كريمة"، لشعوبها، ليس من منطلق استعلائى وإنما "تضامنى" حتى تتحاشى انتشارها ووصولها إليهم.
وهنا يمكننا القول إن "حماية الإنسان" لا تقتصر فى مداها على المهادنة الدولية فى الإطار الجمعى داخل بوتقة المجتمع الدولى، وإنما التحرك بفاعلية؛ لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار داخل الدول المتأزمة فى مختلف المناطق الجغرافية، من خلال التضامن، بعيدا عن الصفقات قصيرة المدى، وذلك لتحاشى امتدادها فى ضوء الحاجة لتحويل فكرة "تصدير الصراع" إلى "نشر الاستقرار" على المستوى العالمى.